افتراءات نصر أبو زيد في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيدولوجية الوسطية”
حسام الدين محمد بني سلامة
وزارة التربية والتعليم || الأردن
المقدمة:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وبعد:
تتعرض الشريعة الإسلامية هذه الأيام لحملات عنيفة تشنها أقلام الإلحاد التي تتنافس فيما بينها على الطعن في أصول الإسلام وعلومه، والمؤسف في الأمر أن التشكيك والطعن إنما يأتي على لسان بعض المحسوبين على الإسلام، الملحقين به، والذين ضلوا عن سواء السبيل ففسدوا وأفسدوا، والجدير بالملاحظة أن حملات الإفساد هذه تصادف للأسف وقعا حسنًا في بعض المنابر الجامعية المنتشرة في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي.
لذلك ترى هؤلاء مسرورين بنتائج إفسادهم للأجيال الطالعة، وهذا مما يزيدهم غرورًا واستكبارًا، فيتمادون في طغيانهم، ولا يذرون شاردة ولا واردة تخدم هذا التشويه إلا انتهزوها، متسابقين في الترويج لأقوالهم وأفعالهم، فتراهم يدخلون على الناس بثقافاتهم من كل باب، ودون كلل أو ملل، في الكتب والجرائد والتلفاز والصروح الجامعية والمنتديات الأدبية وغيرها.
وبهذا الأسلوب صوبوا سهامهم على الإمام الشافعي رحمه الله، وتفننوا في تشويه صورة نتاجه الأصولي والمعرفي، ومن أبرز الدراسات التي باشرت هذا التشويه، دراسة نصر حامد أبو زيد التي جاءت تحت عنوان: “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية”.
وقد قُمت بقراءة هذا الكتاب قراءةً متأنيةً متفحصةً ونقده بصورة علمية مدعومة بأدلة واضحة وبراهين ساطعة؛ للخروج بما لهذا الكتاب وما عليه- وكل ما فيه عليه لا له- كما سيتضح معنا.
وقد جاء اختيار هذا الموضوع لأهداف، أهمها:
- تأثر بعض المسلمين –وخاصة طلبة الجامعات منهم- بشبه القوم، خاصة وأنها تأتي ممن يلبس لبوس الإسلام ويتستر بردائه، ويُظهر حرصه عليه.
- عدم وجود دراسات مستقلة تخصص المسائل الأساسية التي تناولها أبو زيد في كتابه بالرد وتفنيد الشبهة، مع وجود بعض الكتب والأبحاث التي تحدثت عن علمانية نصر أبو زيد بشكل عام، مثل كتاب: قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة للدكتور رفعت فوزي، وكتاب: نصر حامد أبو زيد والهرمنيوطيقا لسليمان بن صالح الخراشي.
وقد كانت مشكلة هذا الكتاب أن الكاتب ممن أخفى علمانيته ولم يظهرها بصورة مباشرة، حيث لم أجده في كلمة واحدة يذكر العلمانية أو أنه علماني، إلا أن المبادئ التي يسعى لتقريرها في كتابه هي عين مبادئ العلمانية، وكلامه كلامهم وأسلوبه أسلوبهم، حتى إنني لم أجده يذكر البسملة ولا يصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- عند ذكره، ولا يترضى عن أحد من أصحابه ولا يترحم على إمام من أئمة المسلمين عند ذكرهم، بل ولا يصف القرآن بأنه كريم أو غيرها من الصفات، فالباحث يبث سمومه دون أن يتقمص ثوب الأفعى، ولا أدل على منهجه هذا من كذبه الصراح في أكثر من موضع، كما سيأتيك بإذن الله.
وقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث، وكان المبحث الأول تحت عنوان: الكاتب في سطور. وقد جعلته في مطلبين: تحدثت في الأول عن ترجمة المؤلف وفي الثاني عن اتجاه المؤلف.
أما المبحث الثاني فقد تحدثت فيه عن بعض الشبه التي أثارها الكاتب حول القرآن الكريم، وقد قسمته إلى مطلبين: جعلت الأول منهما حول طعن المؤلف بعروبة القرآن الكريم، والثاني حول دعوته للتحرر من نصوص القرآن الكريم، وقد أفردت مبحثا ثالثًا للشبه التي أثارها المؤلف حول السنة النبوية، وقد جعلته في ثلاثة مباحث:
الأول منها: لنقض شبه وقوع التعارض بين القرآن والسنة الصحيحة، والثاني للرد على قوله بأن الشافعي هو أول من أسس للقول بحجية السنة، والثالث لنقض شبهة أن السنة لم تستقل بتشريع. ومن الله أستمد العون والنصرة، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
المبحث الأول: الكاتب في سطور:
المطلب الأول: ترجمته([1])
أولا: نشأته:
وُلد نصر حامد أبو زيد في إحدى قرى طنطا في 10 أيلول 1943م، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة، في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة ليستطيع استكمال دراسته الجامعية؛ لأن أسرته لم تكن لتستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960م.
ثانيا: مسيرته الأكاديمية والعلمية.
حصل أبو زيد على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب- جامعة القاهرة عام 1972م بتقدير ممتاز، ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976م، ثم دكتوراه عام 1979م.
وقد عمل نصر حامد أبو زيد بعدد من الوظائف منها:
- فني لاسلكي بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية 1961- 1972م.
- معيد بقسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1972م.
- مدرس مساعد بكلية الآداب، جامعة القاهرة، 1976م.
- أستاذ بكلية الآداب، جامعة القاهرة، 1995م.
- أستاذ زائر بجامعة ليدن بهولندا، بداية من أكتوبر 1995م.
ثالثا: أعماله:
للمؤلف أعمال كثيرة كلها تدور حول فكرة واحدة، ألا وهي التحرر من النصوص الشرعية وسلطتها، وعدم ربط أعمال الحياة بأي رابط ديني، ومن هذه المؤلفات:
- الاتجاه العقلي في التفسير(دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير.
- فلسفة التأويل(دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) وكانت رسالته للدكتوراه.
- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن.
- نقد الخطاب الديني.
- النص- السلطة- الحقيقة.
- الخطاب والتأويل.
- التفكير في زمن التكفير.
- الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية.
رابعا: مغادرته لمصر سنة 1995م.
وعندما تقدم أبو زيد بأبحاثه للحصول على درجة الأستاذية في الفكر الإسلامي تكونت لجنة من أساتذة جامعة القاهرة بينهم د. عبد الصبور شاهين الذي اتهم نصر أبو زيد بالكفر، وقد انضم إلى هذا الرأي كل من: محمد بلتاجي، واحمد هيكل، وإسماعيل سالم. حيث كتبوا في الرد على نصر أبو زيد وبيّنوا أن ما به يقتضي الحكم عليه بالردّة، وطلبوا من المحكمة التفريق بينه وبين زوجته، واستجابت المحكمة لذلك وحكمت بالتفريق بين نصر حامد أبو زيد وبين زوجته. وفي نهاية المطاف غادر نصر أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي القاهرة نحو المنفى إلى هولندا ليقيما هناك، حيث عمل نصر أبو زيد أستاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن.
خامساً/ وفاته:
عاد نصر أبو زيد إلى مصر قبل أسبوعين من وفاته بعد إصابته بفيروس غريب فشل الأطباء في تحديد طريقة علاجه ودخل في غيبوبة استمرت عدة أيام حتى فارق الحياة صباح الاثنين 5 يوليو 2010م، في مستشفى زايد التخصصي، وتم دفنه في مقابر أسرته بمدينة طنطا.
المطلب الثاني: اتجاه المؤلف، وكتابه المسمى “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية”:
إن نظرة جلية في كتب الراحل أبو زيد تبين بما لا يدع مجالا للشك أنه يعد من دعاة الخروج على نهج الاستدلال الإسلامي([2]) الذي سار عليه أئمة الفقه والحديث منذ عصر صدر الإسلام، وقد كانت تسيطر عليه فكرة مركزية وجّهت أفكاره، فهو يتكلف كثيرا في اقتناص الوقائع الإسلامية التي يؤيد بها فكرته، ولو بضرب من التأويل بعيد.
فقد كتب المؤلف يدعو إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم، زاعما أن من يدعو إلى نهج القرآن والاحتكام إليه قد ألغى دور العقل، وأن القرآن لا يمكن فهمه إلا من خلال إخضاعه لقانون التطور الطبيعي، وأن نصوص القرآن خاضعة للصيرورة التاريخية، وأنه لا بد من ربطها بالأحداث السياسية، الأمر الذي لا يتم إلا بنزع القدسية عنها.
وقد حاول أن يبين في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” أنه- أي الإمام الشافعي- “أول ساعٍ في توسيع سلطة النصوص الشرعية، وتضييق دائرة العقل، وتكريس سلطة الماضي بإضفاء طابع ديني أزلي ([3])وهذا ما أدى في نظر المؤلف إلى “تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته”([4])
وهو بهذا لا يدعو إلى الثورة على منهج الأئمة فحسب، بل على مصادر الشريعة نفسها، و كان يصرح بأنه “قد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا، قبل أن يجرفنا الطوفان”([5]).
بهذه العبارة ختم أبو زيد رسالته حول الإمام الشافعي، وأرى أنه أجمل وأوجز اتجاهه الفكري الذي أقام عليه هذا الكتاب وغيره بهذه العبارة.
ولا يفوتني أن أنبه إلى ما في العنوان من غموض، فكلمة أيديولوجية مع وصفها بالوسطية، عبارة فيها نوع من الغموض خاصة مع نسبتها إلى الإمام الشافعي الذي لا يرتضيه المؤلف من حيث الأفكار والمصادر والمنهجية، فكلمة (أيديولوجي) تعني: “العقيدة أو السياسة الفكرية” وعرفها بعضهم بأنها: “نسقا من المعتقدات والمفاهيم يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية الاجتماعية للأفراد والجماعات، وهو من منظار آخر: نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت”([6]).
وإذا عرفنا أن كل من عرّف الإيديولوجية – كمصطلح غربي معاصر- اعتبر أنها قناع يحول بين البشرية وبين العلم، وأنها تتعارض مع الرؤية السليمة للكون، عرفنا سبب استخدام المؤلف لهذه العبارة ونسبتها إلى الإمام الشافعي.
فهو كما سبق معنا يعتبر أن الإمام الشافعي هو أول من دعا إلى سلطة النصوص، وهو أول من دعا إلى تكبيل حرية الإنسان العقلية. وبالنظر في كتاب أبي زيد نرى أنه يعتبر أن الإمام الشافعي بعد أن صاغ الثقافة الإسلامية في القرن الثاني الهجري صياغة أيديولوجية، جعل هذه الأيديولوجية تقوم بدور الوسيط لأنها نسق رمزي يستخدم لأصناف أخرى اجتماعية ونفسية وسياسية واقتصادية، وبالتالي فهو يوسع من سلطة النصوص ليتم له هذا الأمر.
المبحث الثاني: الشبهات التي أثارها أبو زيد حول القرآن الكريم:
يمكن التعرف على موقف نصر أبو زيد من القرآن الكريم من خلال كتابه هذا، الذي صدّره بالحديث عن القرآن الكريم([7])، ولعل أول ما يستوقف الناظر في الكتاب خلوه من البسملة، فضلا عن حمده لله عز وجل، وكما هو معلوم فإن أي عمل لا لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع، كما يخلو الكتاب تماما من الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- كلما حلّ ذكره. فملامح العلمانية ظاهرة في أول صفحة من صفحات الكتاب، وإن كان لا ينسب نفسه إلى العلمانية صراحة.
والحق أن المؤلف أراد من هذا المبحث في كتابه – بل في كل كتابه- أن ينزع القداسة عن القرآن الكريم، وبالتالي يصبح القرآن الكريم بما يحمله من تشريعات وأحكام غير ملزم، خاصة في زماننا الحاضر، وإن كان يصفه في بعض الأحيان “بالنص الأصلي” محاولة منه لهدم القول بمشروعية السنة، والتي عبّر عنها بـ”النص الثانوي”([8]).
ومع أن هناك قضايا كثيرة لا بد من الوقوف عندها في هذا المبحث من كتابه، إلا أن قصر البحث يقتضي الوقوف عند بعضها لا كلها، إذ الغاية الأساسية منه هو بيان الاتجاه العام لهذا الكتاب ولكاتبه وبيان مقصوده من الكتاب بشكل عام ومن كل مبحث بشكل خاص وتفنيد ذلك، وعلى هذا كان لا بد لي من التركيز على القضايا الرئيسة التي تناولها الكاتب وأراد تقريرها، وقد أفردت كل قضية بمطلب خاص فكانت في مطلبين، على أن الثاني هو أهمها وهو لبّ الموضوع.
المطلب الأول: طعنه بعروبة القرآن الكريم:
يحاول الكاتب في هذه القضية أن يوهم القرّاء بأن القول بعروبة كل ما في القرآن أمر أحدثه الإمام الشافعي وصاغه صياغة إيديولوجية، في حين ان هذا الأمر لم يكن معروفا قبل الشافعي، حيث يقول: “وفي دفاعه عن القرآن، وإنكاره التام والمطلق أن تكون به ألفاظ غير عربية، يبدو الدفاع منصبا على اللغة العربية ذاتها، وإنكار أن يكون قد دخلتها ألفاظ أجنبية.
ويذهب الشافعي خلافا لما استقر عليه الرأي في عصره إلى أن الألفاظ التي يقال عنها إنها غير عربية هي في الواقع ألفاظ عربية، وان القائلين بغير ذلك جهلوا هذه الألفاظ أساسا فتوهموا إنها ليست عربية.
ويطرح الشافعي في هذا السياق فكرة اتساع اللسان العربي اتساعا يجعل من المستحيل الإحاطة به إلا للأنبياء([9]).
ثم يدلل على صحة قوله بما قاله الإمام الشافعي- رحمه الله- في كتابه الرسالة، حيث يقول: “ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقُبل ذلك منه، ذهب إلى أن من القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا تعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب عليه منها شيء”([10])
والرد على طعن المؤلف بعروبة القرآن وتجنيه على الإمام الشافعي بأنه أول من أسس لهذا الرأي، سهل وميسور، ذلك أن مسألة وجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم مسألة خلافية ولكل فريق دليله، وإن كنت أرى أن الخلاف شكلي لا حقيقي؛ لأن الكل مجمعون على عروبة القرآن، ناهيك أن الدليل على عروبة القرآن هو القرآن نفسه وليس كلام الإمام الشافعي حتى يكون هو مؤسس هذه الفكرة، وهذا ما قاله الشافعي نفسه في كتابه (الرسالة)، حيث قال: “فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُ) [إبراهيم: 4]. ولا يجوز والله أعلم أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم أتباع دينه، وقد بين الله تعالى هذا في غير آية من كتابه فقال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء: 192- 195] وقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الشورى: 7] وقال: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 28].
قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه –جل ثناؤه- كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه، فقال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل: 103] وقال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) [فصلت: 44]. ([11])
فهل يعقل بعد هذا أن يقال إن الشافعي- رحمه الله- هو أول من قال بعروبة ألفاظ القرآن الكريم؟!نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى.
أما ما أخذه المؤلف على الإمام الشافعي من جعله اللسان العربي أوسع الألسنة وأنه لا يحيط بهذه اللغة إلا نبي، فهذا مأخذ في غير محله، ذلك أن من ألفاظ العربية ما خفي معناها حتى على أعمدة اللغة وأهل الفصاحة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فابن عباس – رضي الله عنه- خفي عليه معنى “فاطر” مع أنه لفظ عربي – كما يبين ذلك الطبري- حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، فقال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر: 1]([12]). وقال أيضا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك([13]). وكذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 47] أي على تنقص. ([14])
ومما يؤسف له أن المؤلف خرج في كلامه عن إطار آداب البحث الموضوعي، فاتهم الإمام الشافعي بالعصبية للغة قريش لأنه قريشي، وجعل هذا الاتهام هو السبب في كون الإمام الشافعي- رحمه الله- يقول بعروبة القرآن، فأوهم القارئ بأن هذه المسألة ليس لها أصل في القرآن ولا عند من سبق الشافعي، وإنما هي ناتجة عن نزعة عصبية([15])، فالله المستعان.
وقد تبين معنا مما سبق فرية هذه التهمة وكون المسألة مما جاء النص عليها صريحا في كتاب الله تعالى.
ومما جاء به نصر أبو زيد كدليل على عصبية الشافعي وانحيازه للقرشية تعاونه مع الأمويين، حيث قال: “لكن أهم صور التعبير عن انحياز الشافعي للقرشية أنه الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا، خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس 179هـ، الذي كان له من الأمويين موقف مشهود بسبب فتاواه بفساد بيعة المكره وطلاقه.
وموقف الإمام أبي حنيفة 150هـ، الرافض لأدنى صور التعاون معهم – رغم سجنه وتعذيبه – يكشف إلى أي حد بلغ رفض الفقهاء لعصبية ذلك النظام ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين إلا أن يكونوا من مؤيديه وأنصاره بشكل مباشر، سعى الشافعي على عكس سلفه أبي حنيفة وأستاذه مالك إلى العمل مع الأمويين، فانتهز فرصة قدوم والي اليمن إلى الحجاز وجعل بعض القرشيين يتوسطون له عنده ليلحقه بعمل، فأخذه الوالي معه وولّاه نجران”([16])
لقد أقام الدكتور نصر أبو زيد دعوى كبرى في كتابه هذا على تعامل الإمام الشافعي- رحمه الله- مع الخلفاء الأمويين، حتى لقد زعم أنه الإمام الوحيد الذي تعامل معهم على اقتناع ورضا، مع أن أبسط دارس للتاريخ الإسلامي يعرف أن الدولة الأموية لم يكن لها وجود في ذلك الوقت؛ لأنها انهارت في عام 132هـ، وقامت على أنقاضها دولة العباسيين، فالشافعي لم يشهد يوما واحدا من عصر الأمويين؛ لأن دولتهم انهارت قبل ولادته بثمانية عشر عاما، حيث ولد –- رحمه الله- – عام 150هـ. ورحم الله القائل: “إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بالعجائب”([17]).
ثم إنه أحالنا في زعمه أن الشافعي ” جعل بعض القرشيين يتوسطون له عنده ليلحقه بعمل” إلى كتاب الشيخ أبي زهرة وعند الرجوع إلى كتاب الشيخ أبي زهرة المسمى “الشافعي: حياته وعصره – آراؤه وفقهه” وجدناه يقول: “وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى الحجاز والي اليمن، فكلمه بعض القرشيين في أن يصحبه الشافعي فأخذه الوالي معه”([18]).
والفرق بين العبارتين واضح، ففي عبارة أبي زيد اتهام للإمام الشافعي بأنه هو الذي وسط بعض الناس لصالحه، وفي نص كلام الشيخ أبي زهرة تبين أن بعض الناس نصحوا الوالي وطلبوا منه أن يأخذ الشافعي معه دون طلب من الشافعي، فكم تختل الموازين باختلال الأمانة في النقل، خاصة إذا كان الناقل قد تحيز بغرض.
ولو كان للإنصاف أدنى اعتبار عند نصر أبو زيد، لنقل كلام الشيخ أبي زهرة في الصفحة نفسها،الذي مفاده أن الشافعي لا يصانع الولاة ولا يتقرب إليهم، حيث قال: “تولى عملا بنجران فأقام العدل ونشر لواءه، وكان الناس في نجران كما هم في كل عصر، وفي كل بلد، يصانعون الولاة والقضاة ويتملقونهم، ليجدوا عندهم سبيلا إلى نفوسهم، ولكنهم وجدوا في الشافعي عدلا لا سبيل إلى الاستيلاء على نفسه بالمصانعة والتملق”([19])
المطلب الثاني: دعوته إلى التحرر من نصوص القرآن وهيمنته:
إن التجدد والتطور والانفتاح لا يعني الاستقلالية المطلقة للعقل، فلا بد أن يظل العقل دائمًا وراء الوحي مهتديا بنوره حتى لا يأتيه الباطل في ظلمات الحيرة والأهواء والتشهّي. هناك مجموعة من “المفكرين !” يعتبرون الإسلام مجرد فكرة تفتقر إلى بعد النظر، ولا بد لهذه الفكرة أن تخضع لقوانين الزمن والتاريخ والتطور، وبالتالي سيصبح الإسلام وما ينطوي عليه من مرتكزات وأصول شيئا باليا لا معنى له، بل سيصبح دينا للذكرى فقط، كما حصل مع دين المسيحية، والذين يمثلون هذا التيار هم على استعداد لتقبل أي شيء يمكن أن يحل محل الإسلام، المهم أن يكون جديدا بغض النظر عن ضرره ونفعه.
التجدد في الإسلام هو أن تظل الأمة على وعي من أن هناك محورًا ومركزًا عليها أن لا تبتعد عنه، وهذا المحور هو الكتاب والسنة. هذا هو المعيار الذي تقرأ الأمة نفسها من خلاله حتى لا تشط عن طريق الهداية.
إلا أن هذا الأمر لا يرضي أهل العلمنة، وإنما يرضيهم التحرر من ثنائيات الإيمان والضلال، وإعادة النظر في كل المسلمات والعقائد الدينية التي يتلقاها المسلم منذ طفولته، والتخلص من سلطة النصوص، والتحرر من: قال الله وقال الرسول؛ لأن هذه النصوص تلغي العقل وتجعله لا يفكر إلا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه، أو بتوجيه منه، هكذا تكلم العلمانيون.
وهكذا تكلم نصر حامد أبو زيد الذي لم أجد في كتابه كلمة واحدة يذكر فيها أنه علماني، لكن كلامه المسطر في كتابه ينطق ويقول: أنا علماني. وأفكاره تنطق وتقول: أنا علمانية. نعم، هكذا تكلم نصر أبو زيد، ودعا علانية إلى التحرر من سلطة القرآن، فقال: “وهكذا ظل العقل العربي الإسلامي يعتمد سلطة النصوص، بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر الشافعي، طبقا لآليات الاسترجاع والترديد، وتحولت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة، والتي أرادت صياغة الذاكرة طبقا لآليات الاستنتاج الحر من الطبيعة والواقع الحي إلى اتجاهات هامشية، وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا. علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا، قبل أن يجرفنا الطوفان”([20]).
ولم يذكر لنا أبو زيد ما الطوفان الذي سيجرفه إذا هو لم يقم بالتحرر من النصوص الإلهية والنبوية المحكمة، ونحن نرى هذه الأمة- ولله الحمد- تسير على هذا المنهج الراسخ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، ولم يجرفها الطوفان، ما عدا بعض الهنات التي وقعت فيها بعض أجيالها، لا بسبب تمسكها بالنصوص، بل بسبب ابتعادها عنها، فكلما كانت الأمة من النصوص ومعانيها ومقاصدها أبعد، كانت أقلّ وأذلّ، وكلما استمسكت بكتابها كانت أعزّ وأغلب، وهذا أمر يثبته التاريخ والواقع، ولا أدل على هذا من هذه العصور النكدة والواقع المرير الذي نعيشه اليوم، حتى أصبحنا لقمة سائغة لكل مفترس، ولا نعلم زمانا ذلت فيه الأمة كهذا الزمان، كما لا نعلم زمانا ابتعدت فيه الأمة عن شريعة ربها كهذا الزمان.
ولا نعلم زمانا عز فيه المسلمون كزمان محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، وخاصة الخلفاء الراشدين منهم، كما لا نعلم زمانا استمسك فيه المسلمون بنصوص الوحي كذاك الزمان، وصدق الله إذ يقول: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِي) [الزخرف: 43]. قال ابن كثير – رحمه الله- في معنى الآية: “أي: خذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم”([21]).
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [هود: 17].
ثم يعود نصر أبو زيد ليقرر مقولته السابقة- التي تكررت في أكثر من كتاب- بأسلوب آخر، حيث يدّعي عدم صلاحية القرآن الكريم لحل المشكلات أو النوازل الحاضرة والمستقبلية، فيقول: “يبدأ الشافعي حديثه عن الدلالة بتقرير مبدأ على درجة عالية من الخطورة، فحواه أن الكتاب يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت أو يمكن أن تقع في الحاضر أو المستقبل على السواء.
وتكمن خطورة هذا المبدأ في أنه المبدأ الذي ساد تاريخنا العقلي والفكري، وما زال يتردد حتى الآن في الخطاب الديني بكل اتجاهاته وتياراته وفصائله، وهو المبدأ الذي حوّل العقل العربي إلى عقل تابع”([22])
وهنا سوف أتجاهل كثيرا من هذه المغالطات التي حاول أبو زيد أن يوهم القارئ ويزعزع أفكاره من خلالها، ومنها كون النص القرآني صالح لكل زمان ومكان؛ ذلك لأن هذه المسألة من البديهيات، فالذي أنزل القرآن هو الله، والذي خلق الزمان والمكان والأحداث هو الله، فكيف يقصر كلام الله عن معالجة ما خلقه الله ؟! إن هذا لشيء عجاب.
وقلت إنني سوف أترك الرد على مثل هذه المغالطات لأتيح الفرصة لنفسي بالرد على القضية الأساسية التي أراد أبو زيد تقريرها، وهي فكرة أن تحكيم القرآن في كل القضايا والحوادث والنوازل هو في الحقيقة تجميد للعقل وأسر له! وإن الإيمان بأن القرآن الكريم تبيان كل شيء يعد نوعا من تبعية العقل وأسره وعدم انطلاقه وإبداعه، ناسيا أو متناسيا ذلك الموقف الإسلامي الرائع من العقل والدعوة للتدبر، يقول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [المؤمنون: 80]. ويقول عز وجل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل: 12].
ولعلي أجزم بأن كون الفقيه أو المجتهد أو الباحث يستطيع عن طريق الدلالات والضوابط الشرعية وعن طريق النظر والاستنباط في كتاب الله تعالى أن يصل إلى حل لكل المشكلات القائمة، وإلى منهجية متكاملة لجميع جوانب الحياة، فإن هذا من أكبر الأدلة على إعمال العقل وتكريمه وقيامه بدوره، وهذا مما لا يصل إليه إلا أصحاب العقول النيّرة. ولهذا – والله أعلم- نجد أن أغلب النصوص القرآنية دلالتها ظنية، مع أنها قطعية الثبوت.
ومما أعجبني في هذا المقام، ورأيت أنه قد وفّى بالغرض ما أُصّل له في كتاب “الإسلام لا العلمانية” من دور العقل وعلاقته بالوحي، فقد جاء فيه ما يلي: “سأل سائل عن دور العقل في التشريع ولماذا نلغيه؟ ونود أن نردّ السائل ومن سلك مسلكه إلى أن العقل إنما يستمد الحكم من الأمور التالية:
- التجارب الحسية على الأشياء المشاهدة والمحسوسة، ويدخل في ذلك التجارب في المعامل والمصانع، وكذا مشاهدات الطبيعة واستخلاص قوانين الكون، وفي ذلك قال الله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت: 20]. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 97].
- العلم المكتسب وما يبنى على المسلّمات العقلية والبداهة، قال الله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].
- الوحي: وهذا فيما لا يخضع للتجارب ولم يكن علما مكتسبا للبشر، حيث إنه يتعلق بأحكام لا مجال فيها للعقل والتجارب، وقد تمثل الوحي فيما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 35].
وقال: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) [هود: 49].
والتشريع من الأمور التي لا تخضع للحواس ولا للتجربة، فغرائز الإنسان لم يستطع الناس من إدخالها المعامل وتحليلها ومعرفة ما يصلح هذه الغرائز ويهذبها، ولهذا تخبطت الفلسفات البشرية في هذا الشأن ما بين المذهب الفردي والمذهب الجماعي، وكلاهما يظن أمورا على أنها حقائق ثم تثبت الأيام عدم صلاحية هذه الحلول، ومن ثم فإن الله قد تكفل بذلك عن طريق الأنبياء والرسل، والعقل يتفهم ما يصله من الرسل والأنبياء، ويقيس عليها، ويختار قانونا لما سكت عنه الوحي بما لا يعارض وحي الله من قرآن أو سنة. “([23])
وبهذا التأصيل الدقيق والكلام الماتع، يتبين لنا بطلان مقولة أبي زيد التي اتهم بها الفقهاء من عصر الإمام الشافعي إلى يومنا هذا بأنهم لا يميزون بين ما كان في مجال الممارسات الدينية التي يكون الكتاب إطارها المرجعي، وبين مجالات الحياة التي تكون التجربة والخبرة هما إطارها المرجعي([24]).
المبحث الثالث: الشبهات التي أثارها أبو زيد حول السنَّة النبوية:
لقد منّ الله على عباده بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن الكريم عليه، وإيتائه السنة التي هي صنو القرآن الكريم؛ من حيث حجيتها ومنزلتها في التشريع (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران 164]. فالكتاب هو القرآن العظيم، والحكمة هي السنة([25]) الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد فرض الله على الناس الأخذ بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من السنة، وبيّن أنها قسم من الوحي وجزء منه، فقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]. وقال سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4].
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم إخباره بما يكون من الدعوة إلى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن، وتحذيره ممن يدعو إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: “ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه”([26])
وقد وقع مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، فوُجد قديما وحديثا من يدعو إلى الاقتصار على القرآن، ويقلل من شأن السنة وأهميتها، ويطعن في نقلتها وأهلها.
ومن حفظ الله تعالى لدينه وفضله على عباده أن هيأ لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من يحفظها وينقلها ويعلمها وينافح عنها وينفي عنها الدخيل، ويدحض شبهات المبطلين ويفندها.
ومحاولة هدم السنة ليست أمرا جديدا بل إن المستشرقين لهم فضل السبق في هذا الموضوع، ومنهم: “جولد تسهير” و”جوزيف شاخت” وغيرهما، حيث قرروا “إن السنة ليست من صنع محمد، بل هي من صنع أصحابه”([27]).
ومن هنا فإن الشبهات والطعون التي أوردها نصر حامد أبو زيد في كتابه “الإمام الشافعي وإيديولوجية الوسطية” والتي سيأتيك بيانها والرد عليها بعد قليل، هو في الحقيقة مردد لآراء أساتذته من المستشرقين والعلمانيين، على أنه يتفوق على المستشرقين في طعنه بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يقوده إلى أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها عصمة ولا علاقة بالوحي، وهذا جريا على المنهج العلماني الذي ينكر الوحي أصلا، إلا أن منهج أبو زيد الذي يوهم القارئ من خلاله أنه معترف بالوحي، يحتم عليه أن يقوم بهدم أركان الوحي بالتدرج، وأنّى له ذلك.
المطلب الأول: شبهة وقوع التعارض بين القرآن والسنة:
النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة يصدق بعضها بعضًا، ويؤكد بعضها بعضًا، ويبين بعضها بعضًا، ولا يتصور وقوع تعارض حقيقي بين القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فالمصدر واحد، وهما من عند الله تعالى، وإذا ظهر تعارض بينهما عند أحد فلن يكون تعارضًا في نفس الأمر وحقيقته، وإنها هو تعارض ظاهري في نظر الإنسان؛ وذلك لقصور فهمه، ولو دقق النظر في الأدلة ورجع إلى المختصين لزال هذا التعارض، ويدل على ذلك أن ما تعارض من الأدلة عند إنسان معين، لا يتعارض عند غيره. والواجب على من ظهر له تعارض بين دليلين أن يسلك مسلك العلماء في رفع هذا التعارض، من الجمع بين الدليلين إن أمكن، وإلا فمعرفة الناسخ والمنسوخ، فإن تعذر فالترجيح بينهما.
يقول نصر حامد أبو زيد: “إن بعض الصحابة لم يأخذوا ببعض المرويات لتعارضها مع بعض نصوص القرآن”([28]). يطرح أبو زيد هذه العبارة الموهمة التي تحتمل أكثر من معنى، ثم لا يذكر لنا مثالا واحدا على هذا التعارض ولا من هم الصحابة الذين ردوا هذه المرويات.
ودون أن يذكر لنا أيضا ما هذه المرويات وما هي درجة صحتها، وهل هي مما رواه بعضهم لبعض عن النبي صلى الله عليه وسلم أم هي مما رواه مسلمة أهل الكتاب مما كانوا يجدونه في كتبهم قبل الإسلام؟ هكذا يلقي أبو زيد هذا الكلام لإيهام القارئ بوجود أحاديث نبوية صحيحة تعارض نصوص القرآن الكريم.
والأعجب من هذا كله أن المؤلف يحيلنا في هذا الادعاء على كتاب” أبو حنيفة: حياته وعصره- آراؤه وفقهه” للشيخ محمد أبو زهرة، ولما رجعت إلى هذا الكتاب وجدت الخبر يكذّب أهله، ووجدت أن الكلام يدور حول العالم الجليل إبراهيم النخعي وليس حول الصحابة، واليكم نص الكلام، حيث ينقل أبو زهرة كلاما حول إبراهيم النخعي ومنهجه في التعامل مع الأحاديث، فقال: “كان إبراهيم فقيه الرأي في العراق، كما كان سعيد بن المسيب فقيه الحجاز، وكانا شخصيتين متقابلتين، وقد أدرك إبراهيم طائفة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنهما، ولكن أكثر رواياته كانت عن التابعين، وكان ينظر إلى معاني ما يرويه من الحديث أكثر من النظر إلى سنده، كان ينقد الحديث من ناحية متنه ومعناه أكثر مما ينقده من ناحية رواته، حتى لقد قال فيه الأعشى: كان إبراهيم صيرفي الحديث، ولقد كان يستمع إلى الحديث فيقبل بعضه، ويرد بعضه بناء على ما أداه إليه نقده وفحصه”([29]).
قاتل الله الجهل، قاتل الله الكذب، أما كان يكفيك في كتابك التمويه على القراء حتى انتقلت إلى الكذب الصراح؟ ولكن ما أصنع إن كان الله قد طبع على قلبك، فهنيئا لك يا نصر أبو زيد أنك قد تفوقت على أسيادك في أساليب المكر والخبث والخداع.
تأمل معي أخي الحبيب هذا الكلام للشيخ أبي زهرة وقارنه بما قاله نصر حامد أبو زيد، وانظر:
- أين تجد في هذا الكلام أن الصحابة قد ردوا بعض المرويات لمخالفتها نصوص القرآن؟
- بل وأين تجد هذه الروايات في هذا الكلام الذي أحالك إليه أبو زيد؟
- بل وأين تجد ذكر القرآن ونصوصه في هذا الكلام؟
إن غاية هذا الكلام هو أن الإمام العلّامة إبراهيم النخعي- رحمه الله- كان يعمل على نقد متن الحديث؛ ليتأكد له خلو الحديث من الشذوذ أو العلل، وهذا منهج علمي رائع تميزت به هذه الأمة على غيرها من الأمم، وعلماء الأمة وخاصة علماء الحديث منهم كلهم متفقون على هذا المنهج، أما كلام أبو زيد فهو يوهم وجود تعارض بين صحيح السنة ونصوص القرآن الكريم، وليته ذكر لنا مثالا واحدا على هذا التعارض المزعوم، فقد ردّ العلماء الأفاضل على كل زعم للتعارض بين النصوص الشرعية.
المطلب الثاني: ادعاء نصر أبو زيد أن الشافعي أول من أسس للقول بحجية السنة مع أنها مجرد اجتهادات للنبي وليست بتشريع:
يقول نصر أبو زيد: “وللشافعي يرجع الفضل في إيجاد الرابطة بين دلالتي “الوحي” وذلك بتأويله للحكمة التي يرد ذكرها في القرآن كثيرا مصاحبة للكتاب”([30])،ثم يستدل على صحة ما ذهب إليه بقول الشافعي: “كل ما سنّ رسول الله مما ليس في الكتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذكر ما منّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة، دليل على أن الحكمة سنة رسول الله”([31]).
ثم يقول أبو زيد: “هكذا يكاد الشافعي يتجاهل “بشرية” الرسول تجاهلا شبه تام، وتكاد تختفي من نسقه الفكري: أنتم أعلم بشؤون دنياكم”([32]). ويقول في موطن آخر: “لكن توحيد الشافعي بين وحي القرآن ووحي السنة لا يستقيم له خاصة وقد جعلهما على درجة واحدة من حيث قوة الإلزام، لأن النتيجة النهائية لمثل ذلك التوحيد مشارفة آفاق التوحيد بين الإلهي والبشري، بما يستتبعه ذلك من إهدار خصوصية الرسول وبشريته. “([33]) ثم يصف السنة بأنها “اجتهادات النبي لفهم الوحي”([34]).
كما يصف موقف الشافعي بأنه “موقف العصبية العربية القرشية التي كانت حريصة على نزع صفات البشرية عن محمد وإلباسه صفات قدسية إلهية تجعل منه مشرعا”([35]).
وفي الرد على كلامه هذا أقول: أما اتهام أبو زيد للإمام الشافعي بأنه أول من قال بحجية ومشروعية السنة بسبب تأويله للحكمة بأنها السنة، فهذا كلام باطل، فتفسير الحكمة التي جاء ذكرها مصاحبا للكتاب بأنها السنة مما تعارف عليه المسلمون حتى قبل أن يولد الشافعي، يقول شيخ المفسرين عند قوله تعالى: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِي) [البقرة: 129] ” قال قتادة: الحكمة: هي السنة “([36])، فهذا قتادة- رحمه الله- والذي كانت وفاته سنة 117هـ يقول بأن الحكمة هي السنة، فكيف يدعي نصر أبو زيد إن أول من قال بهذا هو الإمام الشافعي.
ونحن نعلم أن ولادة الشافعي كانت سنة 150هـ، فهذا القول مقول على لسان قتادة الذي توفي قبل ولادة الشافعي بثلاثة وثلاثين عاما، وعلى كل حال فهذه ليست أول كذبة من كذبات أبو زيد نتعرض لها في هذا البحث.
إن رأي نصر أبو زيد بالسنة يوحي وكأنه يعتقد سماوية النص القرآني، والحقيقة خلاف ذلك، فالفكرة الواضحة المتكاملة عنده أن القرآن عبارة عن نص من النصوص التي تخضع للدراسات الأدبية، وأنه نص زمني تاريخي لا يتسم بالشمولية ولا يخرج عن النطاق الذي تشكل فيه، ومن باب أولى أن تكون السنة بدورها كلام رجل عادي مجتهد يجوز عليه الخطأ، ولذا فإن موقفه من السنة ومن صاحبها صلى الله عليه وسلم متسق مع موقفه من النص القرآني.
كما أننا لم نجد من علماء المسلمين على مرّ التاريخ من يصف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالألوهية، ولم يجرؤ أحدهم أن يضفي على شخصية النبي لونا من القداسة والتأليه، وإنما هي المحبة والتعظيم، بل إن النص الديني عندنا كان حاسما وقاطعا في هذا الأمر، فمحمد بشر (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء: 34] وأحب الصفات إليه العبودية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [الإسراء: 1].
والله سبحانه وتعالى اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لحمل رسالته، وهو في هذا الجانب معصوم، أما ما يتعلق بجانبه البشري وجبلته التي خُلق عليها، فيجري عليه ما يجري على البشر من الأمور العامة، فهو صلى الله عليه وسلم يفرح ويغضب وينصب، ولكنه موافق في كل ذلك لشرع الله تعالى في أقواله وأفعاله.
إذاً يبقى الفارق بيننا وبين “أبو زيد” أنه يريد من بشرية الرسول البشرية العادية الناقصة القابلة للخطأ، إنه يريد أن يكون سيد البشر مثل أبو زيد تماما، أما نحن فنقر أنه بشر معصوم.
وأعتقد أنه لا تخفى عليه آراء العلماء في جوانب بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وآراؤهم في اجتهاداته التي لا تعد من قبيل الوحي، كما لا يخفى عليه تقسيم سنته صلى الله عليه وسلم إلى ما هو تشريع وما هو ليس بتشريع، لكنه يتعمد إخفاء هذه الحقائق.
وكلام أبي زيد في أن الإمام الشافعي هو أول من قال بحجية السنة وأنها مصدر من مصادر التشريع يوحي بأن الصحابة لم يكونوا يرون هذا الأمر، والحق بخلاف ذلك، بل إن هذا الزعم يعد من الكذب والمكابرة، والمطلع على المدونات في كتب السنة، وما كتب العلماء في مواقف الأمة المسلمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنته صلى الله عليه وسلم، يقطع بكذب هذا الادعاء، فقد كان أصحاب رسول الله أحرص الخلق على ملاحظة أقواله وأفعاله وحفظها والعمل بها، بل بلغ من حرصهم أنهم كانوا يتناوبون ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يحدث عنه البخاري بسنده المتصل إليه، يقول:
“كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك. “([37])
وما كان ذلك إلا لحرصهم الشديد على معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والالتزام بها.
وقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم. روى البخاري عن عقبة بن الحارث- رضي الله عنه- أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه، فركب من فوره من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل. ففارق زوجه لوقته وتزوجت بغيرها”([38]).
بل لقد بلغ من حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الالتزام بسنته صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة. ودون أن يسألوا عن ذلك ثقة منهم بأن فعله وحي من الله تعالى، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه وقال: إني لن ألبسه أبدا. فنبذ الناس خواتيمهم”([39])
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة- رضوان الله عليهم- على معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، استجابة لله تعالى في أمره بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]. وقوله جل شأنه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65]. ولعلمهم أن ما يصدر عنه ليس بكلام بشري مجرد كما يدعي أبو زيد، وإلا فأين قول الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4].
والقول بحجية السنة النبوية مما تواتر عن العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن سبق الإمام الشافعي رحمه الله، ومثال ذلك: ” أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ، وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ، يَوْمَئِذٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» قَالَ: أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ- أَوِ الْحِكْمَةِ- أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلَا أَرَى أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُعَارِضُ فِيهِ”([40]) ومثال ذلك أيضًا قول أبي حنيفة رحمه الله: ” إياكم والقول في دين الله بالرأي، وعليكم باتباع السنّة، فمن خرج منها ضلّ”([41]) وروي ” أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلًا وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا “([42])
فهل يعقل بعد هذا أن يُقال: إن الشافعي- رحمه الله- هو أول من أسس للقول بحجية السنة وان من قبله لم يكونوا يرون هذا؟.
المطلب الثالث: القول بأن السنة لم تستقل بتشريع:
يقول نصر حامد أبو زيد: “وحتى مع التسليم بحجية السنة، فإنها لا تستقل بالتشريع، ولا تضيف إلى النص الأصلي([43]) شيئا لا يتضمنه على وجه الإجمال أو الإشارة”([44]).
ولعل هذه الشبهة هي شبهة “القرآنيون”، الذين يدعون إلى الأخذ بالقرآن وترك السنة، وقد تقدم الرد على هذه الشبهة بشكل إجمالي في هذا البحث([45]).
وأقول الآن: لقد بيّن الله تعالى أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة، فبين في القرآن وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحِلّ البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وأكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث على جهة الإجمال والعموم، أما بيان التفاصيل والجزئيات فلا نجده إلا في السنة المطهرة، وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل يحمل تلك الشبهة: “إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد له الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا، إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك”([46]). وهذا كله من قبيل التشريع.
وقد يقول قائل: إن المؤلف لم ينكر هذا وإنما أنكر الاستقلال التام للسنة بالتشريع، وليس يقصد بيان المجمل وتوضيح المشكل وتخصيص العموم وغير ذلك، فأقول: إن هذا من التشريع، والمؤلف أنكر استقلالها بالتشريع، مع أنه أنكر حتى بيان المجمل وتخصيص العام وغيرها في عدة مواضع من كتابه([47]).
وحتى لو سلّمنا بهذا الفهم لكلام المؤلف، فإنه لا يزال فهما سقيما؛ ذلك أن السنة استقلت بأحكام لا توجد في كتاب الله تعالى على وجه الإجمال، ومنها:
- تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها: فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها”([48]).
- صدقة الفطر: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة”([49]).
- ميراث الجدّة: فعن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: “جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى اسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق”([50]).
- الحكم بشاهد ويمين: فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين”([51])
- تحريم كل ذي ناب من السباع: فعن أبي ثعلبة رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع”([52]).
ونحن نجد المسلمين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا قد التزموا هذه الأحكام، فلا نجد أحدا يجمع إلى زوجته عمتها ولا خالتها، وصدقة الفطر يخرجها العاصي والمطيع، وكل هذا اتباعا لقول الله جل شأنه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7].
الخاتمة:
لماذا هذا الهجوم من نصر حامد أبو زيد على الإمام الشافعي خاصة؟
أقول وبإيجاز: لأن ما قام به الإمام الشافعي- رحمه الله- قطع به الطريق على كل متقوّل في الشرع بغير علم، واستنّ منهجا في البحث ينظم للمجتهد طرائق الاستنباط ويزهق مسالك الحجج الفاسدة.
ومن هذا البحث القصير أخرج بالنتائج والتوصيات التالية:
النتائج:
- إن سبب ظهور العلمانية سبب خاص، لا يتعدى جدران الكنيسة التي قصّرت في تلبية رغبات أتباعها، وحاربت نتاجهم الفكري باسم الرب والدين والكتاب المقدس، فلا مبرر لدخولها إلى بلاد الإسلام، ولا مقارنة بين الدينين، فديننا يلبّي جميع الحاجات ويجيب عن جميع التساؤلات ويحفز العقول على التجديد والاختراع والاستكشاف، وفرق كبير بين من يصرح بأنه علماني فتكون منه على حذر، وبين من يخفي حقيقة منهجه ويظهر حرصه على الإسلام والأمة والتطور والتجديد، ثم يأتي بأفكار يريد من خلالها هدم الدين من أصوله، ونصر حامد أبو زيد: مغرض متخفّي.
- إن عروبة القرآن الكريم ثابتة بنص القرآن نفسه، والطعن فيها طعن بحجية القرآن وهدم لأصل من أصول فهمه.
- الكذب سمة بارزة لكل باحث يتخفى لغرض فاسد.
- القول بأن القرآن الكريم إنما نزل لأمور تتصل ببيئة وعصر ومكان لا ينفي تجاوزها، قول يدعو للتحرر من نصوص القرآن الكريم، وبالتالي فهو ليس ملزم لأحد في أحكامه وآدابه.
- إن القول بوجود تعارض في القرآن والسنة، قول يفتقد للتبع والاستقراء.
- حجية السنة ثابتة بالقرآن الكريم، ولا مشقة في إثباتها، ولولا السنة لما عرف العبد كيف يعبد ربه.
التوصيات:
- أوصي الباحثين وطلبة العلم بالتصدي للعلمنة الخفية المغرضة التي تنتشر في كتب الحداثيين ومقالاتهم، وتظهر بمظهر الغيرة على الدين، ورد شبهاتهم بأسلوب علمي رصين هادئ؛ حتى لا يُفسدوا الأجيال الطالعة بشبهاتهم.
- أوصي كل قارئ للحداثيين الجدد أن يتأكد من نسبة الأقوال لأصحابها في النقولات التي يودعونها كتبهم ومقالاتهم، فأكثرها إما أن يكون كذبًا محضًا، أو محرفًا، وبهذا تسقط الثقة بهم وبأقوالهم.
- وَآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمَينَ §
المصادر والمراجع:
القُرْآنُ الكَريمُ
- ابن المبارك، عبد الله ابن المبارك بن واضح، (1407ه)، مسند عبد الله بن المبارك، تحقيق: صبحي البدري السامرائي، ط1، الرياض، مكتبة المعارف.
- ابن حنبل، احمد بن محمد الشيباني، مسند احمد، مذيّلة بأحكام شعيب الارناؤوط عليها، القاهرة، مؤسسة قرطبة.
- ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد، (1414 هـ- 1994 ) جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، ط1، المملكة العربية السعودية، دار ابن الجوزي.
- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي، (1420هـ 1999) تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، ط2، دار طيبة للنشر والتوزيع.
- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، مع تعليقات الشيخ الألباني، بيروت، دار الكتاب العربي.
- أبو زهرة، محمد، (1978) الشافعي: حياته وعصره- آراؤه وفقهه، ط1، دار الفكر العربي.
- أبو زهرة، محمد، أبو حنيفة حياته وعصره- آراؤه وفقهه، ط2، دار الفكر العربي.
- أبو زيد، نصر حامد، (2007) الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ط1، الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي.
- الأصبحي، مالك بن أنس، موطأ مالك- رواية يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مصر، دار إحياء التراث العربي.
- البخاري، محمد بن إسماعيل، (1407هـ 1987) الجامع الصحيح المختصر، تحقيق: مصطفى البغا، ط3، اليمامة- بيروت، دار ابن كثير.
- البهنساوي، المستشار سالم، (1412هـ 1992) الإسلام لا العلمانية- مناظرة مع د. فؤاد زكريا، ط1، الكويت، دار الدعوة للنشر والتوزيع.
- التهانوي، محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد، (1996)، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق: د. علي دحروج، ط1، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون.
- جريدة الدستور الأردنية،(6/7/2010) وفاة الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد، عمان- الأردن.
- حلمي، وفاء، (3/نوفمبر/(2005) نصر حامد أبو زيد المفكر المفترى عليه، جريدة الحزب العربي الناصري، مصر.
- السباعي، مصطفى، (2000) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ط1، دار الوراق- المكتب الإسلامي.
- الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق: احمد محمد شاكر، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
- الطبري، محمد بن جرير، (1420هـ 2000) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: احمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة.
- العسقلاني، احمد بن علي بن حجر، (1379ه)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار المعرفة.
- الهيثمي، الحافظ علي بن أبي بكر بن سليمان، (2001) غاية المقتصد في زوائد المسند، تحقيق: خلاف محمود عبد السميع، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
- ويبستر، نوح، (1961) قاموس ويبستر، ويكيبيديا الموسوعة الحرة، wiki < https: //ar. wikipedia. org
The fabrications of Nasr Abu Zeid in his book “Imam Shafi’i
and the establishment of the middle ideology”
([1]) انظر: حلمي، مقال: نصر حامد أبو زيد المفكر المفترى عليه، جريدة الحزب العربي الناصري، 13/نوفمبر/2005م وانظر أيضا: وفاة الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد، جريدة الدستور الأردنية بتاريخ: 6/7/2010م.
([2]) أنظر مثلًا: كتابه الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، ص101 و ص 190.
([3]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، ص190.
([5]) المرجع نفسه، ص190، وقد كرر هذه المقولة في أكثر من كتاب له.
([6]) انظر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة، نقلا عن قاموس وبستر.
([7]) لم أجد أبو زيد يصف القرآن بهذه الصفة “الكريم” في كتابه قط، ولعل هذا من مقتضيات منهج العلمانية الذي يتبعه.
([8]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص119.
([9]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية،، ص91.
([12]) الطبري، جامع البيان، 11/283
([14]) انظر المرجع السابق، ج17/214.
([15]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص95-96.
([16]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية،، ص96-97.
([17]) ابن حجر، فتح الباري، ج3/584.
([18]) أبو زهرة، الإمام الشافعي: حياته وعصره-آراؤه وفقهه، ص 21.
([20]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص190.
([21]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج7/229.
([22]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 101.
([23]) البهنساوي، الإسلام لا العلمانية، مناظرة مع د. فؤاد زكريا، ص85-86.
([24]) انظر: أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 102.
([26]) [أبو داود، سنن أبي داود، السنة/ لزوم السنة، 4/328: رقم الحديث 4606] وقال الألباني صحيح.
([27]) السباعي، السنة ومكانتها في التشريع، ص220.
([28]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 117.
([29]) أبو زهرة، أبو حنيفة حياته وعصره- آراؤه وفقهه، ص256-257.
([30]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 119-120.
([31]) الرسالة، للإمام الشافعي، 32.
([32]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 120.
([36]) الطبري، جامع البيان، ج3 /87.
([37]) [البخاري، صحيح البخاري، 1/46، حديث رقم: 89].
([38]) [المرجع السابق، 1/45، حديث رقم: 88].
([39]) [المرجع نفسه، 6/2661، حديث رقم: 6868].
([40]) [مسلم، صحيح مسلم، 1/64، حديث رقم: 37]
([41]) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، 1/164.
([42]) [ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1193، حديث رقم: 2349]
([43]) يقصد بذلك القرآن الكريم.
([44]) أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 119.
([46]) [ابن المبارك، مسند عبد الله بن المبارك، 1/143، حديث رقم: 233].
([47]) انظر: أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص 132-134.
([48]) [احمد بن حنبل، المسند، 2/18، حديث رقم: 577]. وهو حديث حسن لغيره.
([49]) [البخاري، صحيح البخاري، 2/547، حديث رقم: 1432].
([50]) [مالك، الموطأ، برواية يحيى الليثي، 2/513، حديث رقم 1076].
([51]) [ابن حنبل، مسند احمد، 1/248، حديث رقم ]2224، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح على شرط مسلم.
([52]) [البخاري، صحيح البخاري، 5/ 2103، حديث رقم 5210].