مقارنة بين الشورى والديمقراطية
إبراهيم الأمين أحمد
كلية الدعوة || جامعة أم درمان || السودان
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين
في ظل التقدم العلمي وثورة الاتصالات وتكنلوجيا المعلومات والاتصال (تكرار) بالغرب غابت عن كثيرين مفاهيم إسلامية أُلبست عليهم بمفاهيم غربية فاختلط عليهم الحابل بالنابل، فحاولت من خلال هذه الورقة البحثية أن أقارن بين مفهومين لما حصل فيهما من لبس على كثيرين، بل أن البعض يحاول أن يطوع النصوص حتي يحصل توافق بين المفهوم الإسلامي والغربي فكانت هذه الورقة البحثية بعنوان (مقارنة بين الشورى والديمقراطية).
أولاً: أهمية الموضوع:-ـ
تنبع أهمية الموضوع من أهمية الاختصاص في نظام الحكم والتشريعات وقد التبس على كثيرين أن الديمقراطية والشورى وجهان لعملة واحدة وأن اختلفت التسميات فكان لزاماً علينا أن نميط اللثام ونوضح الفرق بينهما وأن هناك تباين في كل شيء: من المصدر والغاية والهدف والميدان والمبدأ والخصائص والنتائج والقيود فليس هناك تشابه (تطابق) كما يعتقد البعض.
ثانياً: هدف البحث:-
يهدف البحث إلى بيان أن الشورى ليست هي الديمقراطية، وأن الديمقراطية لا تصلح في مجتمع الاسلام لما يترتب عليها من مفاسد وأن الشورى أمر رباني يجب العمل به وبشروطه وفي ميدانه وبقواعده
ثالثا: مشكلة البحث:-ـ
عالج البحث اللبس بين الشورى والديمقراطية وذلك بالإجابة على جملة من الأسئلة: ماهي الشورى؟ وما هو ميدانها ومن رجالها؟ ومتى تكون المشورة؟ وهل الشورى ملزمة؟ وما قواعدها وشروط رجال الشورى؟ وماهي الديمقراطية؟ وأنواعها وتاريخها؟ وتطبيقها؟ والخلل في التطبيق والفرق بينها وبين الشورى، وما هي مفاسدها؟
رابعاً: منهج البحث: ـ
المنهج المتبع في البحث المنهج التحليلي القائم على بسط الحقائق من مظانها وتحليلها واستخراج النتائج منها
خامساً: الدراسات السابقة:-
كثرت الدراسات عن الديمقراطية مدحا وقدحا وعن الشورى فعلى سبيل المثال لا الحصر: (نقض النظام الديمقراطي-ـ د/محمود الخالدي) (نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية، للدكتور أحمد علي مفتي) (ومبدأ الشورى في الاسلام د/عبد الحميد متولي) وغيرها وقد جعلتها مراجع اخذت منها ونسبت إليها، أما ما يميز هذه الدراسة عن سابقاتها أنها دراسة مقارنة بين الشورى والديمقراطية ولم اقف على دراسة منفصلة مقارنة بينهما اذ تبرز مزايا وخصائص كل منهما.
سادسا:-ـ خطة البحث
قسمت البحث كالاتي: ـ
المبحث الأول: الشورى
المطلب الأول: تعريف الشورى لغةً واصطلاحاً
المطلب الثاني: حكم الشورى وتطبيقاتها وأهل الشورى
المطلب الثالث: ميدان الشورى والغاية منها
المبحث الثاني: الديمقراطية
المطلب الأول: تعريف الديمقراطية لغةً واصطلاحاً
المطلب الثاني الموجز التاريخي للديمقراطية
المطلب الثالث: أنواع الديمقراطية
المطلب الرابع: خصائص الديمقراطية
المبحث الثالث: أهم الفروق بين الديمقراطية والشورى
المبحث الرابع: مفاسد الديمقراطية
الخاتمة:- وتشمل: نتائج البحث والتوصيات
المبحث الأول: الشورى
المطلب الأول: تعريف الشورى لغة واصطلاحا:-ـ
“شَاوَرْتُهُ” في كذا و”اسْتَشَرْتُهُ” راجعته لأرى رأيه فيه “فَأَشَارَ” عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة فكانت “إِشَارَةٌ” حسنة والاسم “المَشُورَةُ” وفيها لغتان سكون الشين وفتح الواو والثانية ضم الشين وسكون الواو وزان معونةٍ ويقال هي من “شَارَ” الدابة إذا عرضها في المشوار ويقال من شرت العسل شبّه حسن النصيحة بشرب العسل، وتشاور” القوم و”اشْتَوَرُوا” والشورى” اسم منه {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مثل قولهم: أمرهم فوضى بينهم أي لا يستأثر أحد بشيء دون غيره، والشوار” مثلث متاع البيت ومتاع رحلٍ البعير ([1])
فتحصّل من التعريف اللغوي أن أصل الشورى استخراج للشيء، كاستخراج العسل، ويراد بها أن يخرِج المشير رأيه حول أمر طلب منه فيه المشورة. والشورى في الإطلاق الشرعي مطابقة من حيث العموم لمعناها اللغوي، فهي طلب إبداء المشورة،
الشورى شرعًا: ـ
(وفي الكتاب العزيز: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ([2])
الشورى هي أخذ الرأي مطلقاً، فحين يريد الإنسان-أي إنسان- حاكماً أو محكوماً، مديراً أو موظفاً، عاملاً أو مزارعاً، حين يريد التوصل إلى رأي في مسألة ما، أو التبس عليه معرفة رأي بمسألة ما. فإنه يرجع إلى من يأنس فيهم حسن الرأي، والقدرة على معرفة الصواب في مثل مسألته، لأخذ رأيه فيها.
الأمر الذي يتشاور فيه.
قال الله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ([3])
وجاء في تفسير أبي السعود (شورى بينهم: أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليها وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا) ([4])
جاء في التفسير: (قوله فإذا عزمت فتوكل على الله: أي إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك: أي اعتمد عليه وفوض إليه، وقيل أن المعنى فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله لا على المشاورة، والعزم في الأصل قصد الإمضاء: أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على لله وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد فإذا عزمت بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى أي فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل على الله-ـ ([5])
المطلب الثاني: حكم الشورى وتطبيقها وأهل الشورى-ـ
أولاً: حكم الشورى وتطبيقها
الشورى أمر رباني وذلك في قوله تعالي: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ([6])
(ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث استجابة لأمر الله وتطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ([7]) وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم إلى أمام القوم، ([8]) وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال له الصديق إنا لم نجئ لقتال وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت إلا خيرا واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها ([9]) فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها، وقد أختلف الفقهاء هل كان واجبا عليه أو من باب الندب تطيبا لقلوبهم على قولين، وقد روى الحاكم في مستدركه 703 عن ابن عباس في قوله تعالى وشاورهم في الأمر قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت في أبي بكر وعمر وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين، وقد روى الإمام أحمد 4227 عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعت ما في مشورة ما خالفتكما ([10]) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المستشار مؤتمن) ([11])
وقوله تعالى فإذا عزمت فتوكل على الله: أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه أن الله يحب المتوكلين ([12])
ثانياً أهل الشورى:-
من هم أهل الشورى؟ هم أهل العقد والحل أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة وهو الذي اشار اليه بقوله تعالي: “وأمرهم شورى بينهم” وقوله: “ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” ([13]) ولهذا أمر بطاعة هؤلاء الذين سماهم أولي الأمر وهم أهل الشورى في الآية الأخرى فقال: “يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، فهذا ما جاء به الإسلام، وهو هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها، مرتقية في ([14]) سياستها وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة، ويلزم القضاة والحكّام بإتباعها والحكم بها ”
إذا مجلس الشورى في الإسلام يتكون من العلماء الأتقياء العقلاء الذين يخشون الله تعالى ويتقوه في شان الأمة.
واشترط الماوردي ثلاث شروط لأهل الاختيار، قال (أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاث شروط. أحدها: العدالة. والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة. والثالث: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وليس لمن كان في بلد مزية على غيره من أهل البلاد يتقدم بها، وإنما صار من يختص ببلد الإمام متولياً لعقد الإمامة لسبق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الغالب موجود) ا ([15])
المطلب الثالث: مبدأ الشورى وقواعدها وميدانها وغايتها:-ـ
اولا مبدأ الشورى وقواعدها:
ومن هذه القواعد الأساسية التي توجب الشريعة اتباعها في تطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه أن تكون الأقلية التي لم يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأغلبية، وأن تنفذه بإخلاص باعتباره الرأي الواجب الاتباع، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية، وليس للأقلية أن تناقش رأياً اجتاز بعد المناقشة، أو تشكك في رأي وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول التي سنها للناس والتي يجب على الناس اتباعها، طبقاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [[16]].
ولقد سن الرسول-صلى الله عليه وسلم-هذه السنة وعمل بها في حياته، واتبعها أصحابه بعد وفاته.
ثانيا ميدان الشورى:-ـ
على أن الأمر الشرعي المنصوص عليه بصورة قطعية ليس محلا للمشاورة، ولذا أخبر السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة لما كانت الشورى في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها النص، كان لزامًا أن يكون المستشار ذا دراية بالأمر الذي يستشار فيه، حتى يشير بما ينفع من واقع ما يعلم، وذلك يستوجب أن يكون المستشار من أهل الأمانة في دينه والدراية في علمه، فليست الشورى وجهة نظر مجردة يصح أن يبديها كل أحد، بل الشورى لا تكون إلا في أمر له شأن، ويراد بالمشورة فيه الوصول إلى ما هو أقرب إلى الكتاب والسنة، ولذا احتيج إلى مشورة من هو مؤهل، فمن هنا لزم المستشار شرعًا إذا لم يتبين له وجه الصواب فيما سئل عنه أن يكف عن الإدلاء بالمشورة ويحيل المستشير إلى غيره، فإن مَن هذه صفته داخل في عموم من سئل عما لا يعلم، فيلزمه أن لا يتكلم فيما لا يعلم. وقد قال النبي: “المستشار مؤتمن”) ([17]) (وقد دلت تطبيقات الخلفاء الراشدين على أن للشورى رجالها المؤهلين، وأنها ليست بالكلأ المباح لكل أحد، فقد روى الدارمي بسنده إلى ميمون بن مهران أن أبا بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وأن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين: هل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) وهذا ما فعله الرسول صل الله وعليه وسلم والخلفاء الراشدون، قال جعفر وحدثني غير ميمون أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم: فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به، قال جعفر وحدثني ميمون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم) ([18])
ثالثا: الغاية من الشورى: ـ
أن المقصود بالمشورة شرعًا أن يتوصل إلى ما فيه رضا الله عز وجل، فذلك هو ما يحقق للأمة صلاح دينها ودنياها. وإذا اجتهد الحاكم وأهل الشورى في تحقيق هذه الغاية فقد ساروا بالشورى المسار السليم الذي لأجله شرعها الله. وإنما يكون الخلل إذا قصد بالمشورة خلاف هذه الغاية، من تحقيق مصلحة وقد كان كلام غير واحد من أهل العلم في غاية الشورى مقرونًا بحكم التزام نتيجتها.
وهذا التقرير لمسألة نتيجة الشورى يربطها بكون الشورى في أصلها لا تقع إلا في المسائل الاجتهادية، فلزم أن يعمد المستشير إلى أقرب الأقوال للكتاب والسنة فيعزم عليه وينفذه متوكلًا على الله، كما أمر الله نبيه بذلك في الآية (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ([19]) جاء في تفسير الشوكاني (أي إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك أي اعتمد عليه وفوض إليه، وقيل أن المعنى فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله لا على المشاورة، والعزم في الأصل قصد الإمضاء، أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله، وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد فإذا عزمت بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى، أي فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل على الله ([20])
وبذلك يكون الإنصاف في هذه المسألة، فلا الحاكم ملزمٌ بقول بعض أهل الشورى في أمر وقع فيه الخلاف بينهم، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن يغفِل الحاكم قولًا اتفق عليه جماعة وهم أهل العلم والأمانة ويستبدّ برأي انفرد به دونهم، وهو إنما استشارهم لكونه مترددًا في الصواب، متطلعًا لإنارتهم له بمشورتهم.
والمقصود أن يحصل الائتلاف ويجتنب الاختلاف؛ ذلك حتى لا يترتب على الإصرار على قول ما فرقةٌ توهن الأمة وتضعفها، فتلك مفسدة أكبر من مفسدة ترك القول الذي يرجحه صاحبه. والظاهر أن الحاكم إذا أصر على قول خالف به جماعة فإنه يطاع، تركًا للخلاف والشقاق، على أنه بفعله هذا يكون إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب، إذ خالف هذا الكثير الذي اتفق على رأي خالف به الحاكم، لكن أن كان الحاكم راسخًا في علمه واختار قولًا هذه صفته فشأنه شأن انفراد العالمِ بقول خالف به أهل العلم في مسائل هي محل للاجتهاد، والعلم عند الله تعالى.
هذه هي الشورى في الإسلام تعريفها وحكمها وميدانها وأهل الشورى وصفاتهم وهل هي ملزمة
المبحث الثاني: الديمقراطية
المطلب الأول: تعريف الديمقراطية لغة واصطلاحا
أولاً: تعريف الديمقراطية لغة
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل Democracy كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos (الشعب وKratos (سلطة) ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب. وتطلق علي نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيبا علي أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين. ([21])
فصارت الكلمة المركبة من هاتين الكلمتين تعني: حكم الشعب، أو سلطة الشعب، وعلى ذلك: فـ “الديمقراطية” هي ذلك النظام من أنظمة الحكم الذي يكون الحكم فيه أو السلطة أو سلطة إصدار القوانين والتشريعات من حق الشعب أو الأمة أو جمهور الناس.
ثانيا: الديمقراطية اصطلاحا:-ـ
حق الشعب المطلق في أن يشرع لجميع الأمور العامة بأغلبية أصوات نوابه وعلي هذا فإن (إرادة الشعب) التي انبثقت عن النظام الديمقراطي تعني من الوجهة النظرية علي الأقل أن هذه الإرادة ذات حرية لا تتقيد مطلقا بقيود خارجية فهي سيدة نفسها ولا تسأل أمام سلطة غير سلطتها ([22])
من هذا الفهم لواقع الديمقراطية يتضح أنها تقوم على أساس السيادة للأمة
وإذا كان حكم الشعب للشعب هو أعظم خصيصة من خصائص الديمقراطية التي يلهج بذكرها الذاكرون الديمقراطيون، فإن التاريخ القديم والحديث يدلنا على أن هذه الخصيصة المذكورة لم تتحقق على مدار تاريخ الديمقراطية، وأن نظام الحكم الديمقراطي كان دوماً نظاماً طبقياً، حيث تفرض فيه طبقة من طبقات المجتمع إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع.
ففي القديم-عند الإغريق-كانت الطبقة المكونة من الأمراء والنبلاء وأشراف القوم هي الطبقة الحاكمة المشرِّعة صاحبة الإرادة العليا، بينما كانت بقية المواطنين-وهم الأغلبية-لا تملك من الأمر شيئاً.
وأما في العصر الحديث: فإن طبقة كبار الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال “الرأسماليين” هي الطبقة الحاكمة المشرعة صاحبة الإرادة العليا، فهي التي تملك الأحزاب ووسائل الإعلام ذات الأثر الجلي في تشكيل الرأي العام وصناعته، بما يكفل في النهاية أن تكون إرادة “الرأسماليين” هي الإرادة العليا صاحبة التشريع.
ومن هنا يتضح أن الديمقراطية كانت دوماً حكم الأقلية (فئة كانت أو طبقة) للأغلبية، وليس حكومة الشعب أو الأغلبية كما يدل عليه ظاهر تعريف الديمقراطية، أو كما يتوهم كثير من الناس بل أكثرهم. ([23])
المطلب الثاني: الموجز التاريخي الديمقراطية:
الديمقراطية الإغريقية القديمة:
لقد ظهر الفكر الديمقراطي لأول مرة في المجال التطبيقي في مدينة أثينا اليونانية، عقب الحرب الضروس التي وقعت بين الفرس واليونان، في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد (497- 392 ق.م) ؛ والتي كان من نتائجها سقوط نظام حكومة الفرد، وخروج أثينا منتصرة بعد أن أكدت زعمتها على جميع المدن اليونانية.
وكانت الممارسة الديمقراطية الأثينية- نسبة إلى أثينا- قد بدأت بتجربة بالغة البساطة؛ حيث كان الشعب كله يجتمع بذاته في جمعية شعبية تضم من تتوافر فيه الشروط المطلوبة، أي أن يكون أثينياً حراً ذكراً يبلغ الثامنة عشر من العمر، وتتولى هذه الجمعية سلطات المجالس النيابية الحديثة، من تشريع للقوانين ومراقبة لأعمال الحكومة. أما رجال الحكومة أنفسهم، وغيرهم ممن يشغلون الوظائف العامة: كالموظفين العموميين والقضاة وقادة الجيش وضباطه وغيرهم، فيختارون بالانتخاب، حيث كان يتم انتخاب ضعف العدد المطلوب، ثم تجري القرعة بينهم لاختيار العدد اللازم لملء الأماكن الشاغرة.
وتعتبر أثينا هي المكان الأول الذي تم فيه تطبيق الحكم الديمقراطي؛ والتي منها جاء استعمال مصطلح (الديمقراطية). وهي في حقيقتها تجربة محدودة بالمعنى المتعارف عليه الآن، فلم يكن لكل أفراد المجتمع الحق في المشاركة في صناعة القرار السياسي آنذاك، فالعبيد والأجانب المقيمون في أثينا لم تشملهم التجربة الديمقراطية، وهاتان الطبقتان كانتا تشكلان أغلبية سكان المدينة؛ فضلاً عن عدم مشاركة النساء، فالحياة السياسية كانت محصورة بالعرق والجنس والحالة الاقتصادية للفرد.. “أي الملاك دون الفقراء والمساكين والعبيد” ([24]).
الديمقراطية القيصرية:
وهي التي تحققت في ظل النظام الاستبدادي الذي أقامه “نابليون بونا برت”، في فرنسا، وفقاً للدستور الذي أصدره في 13 كانون الأول 1799م؛ وكذلك النظام المماثل الذي أسسه لويس نابليون وعرف بدستور 1852م. وتقوم هذه الديمقراطية على تقديس الحاكم الذي كان يسمى حينذاك بـ (القيصر) ، بوضع السلطة المطلقة في يده ثقة بقدارته ونواياه، بعد إجراء استفتاء شعبي ظاهري لتعزيز نفوذه في عيون عامة الناس.
الديمقراطية التقليدية (الغربية) :
وهي تلك المبادئ التي اتخذتها الثورة الفرنسية أساساً لدستورها، كما كانت أساساً للأنظمة الفرنسية المتعاقبة بعد الثورة؛ ثم انتشرت في مختلف دول غربي أوروبا، وأمريكا. وهو المثل الذي تحتذي به هذه الدول في العصر الحديث، بعد تعديل هنا، وترقيع هناك.
الديمقراطية الشعبية:
وهي التي استوحت –أساساً- المذهب الماركسي وتطبيقاته في الاتحاد السوفيتي وغيره من الدول الاشتراكية؛ وذلك قبل انهيار المعسكر الاشتراكي مؤخراً.
الديمقراطية الاشتراكية:
وهي التي تأخذ بها الأحزاب الاشتراكية الأوروبية الغربية، والتي تعمل على تحقيق نوع من الاشتراكية عن طريق البرلمان؛ وترجع في فلسفتها إلى مصادر غير ماركسية، مثل المسيحية والأناجيل، وبعض الفلاسفة. وتختلف عن الأحزاب الشيوعية التي تلجأ إلى فكرة الصراع الطبقي وجدليته لتحقيق الاشتراكية. ([25]) هذا هو الجانب التاريخي لتطبيق الديمقراطية وتطورها تاريخي
المطلب الثالث: أنواع الديمقراطية:-ـ
1. الديمقراطية المباشرة:
وهي أقدم صور الديمقراطية، حيث يمارس الشعب كله فيها الحكم بنفسه من غير وسيط في كافة مجالات الحكم من الناحية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا الأمر جد عسير وشاق، فلا يُتصور أن يمارس الشعب كله السلطة في كافة مجالاتها في كل مسألة يحتاجها الناس، إلا إذا كان عدد أفراد هذا الشعب محدوداً للغاية، ولذلك فإن هذه الصورة من ممارسة السلطة بواسطة الشعب لم يعد لها وجود ذو قيمة في عالمنا المعاصر.
2. الديمقراطية النيابية:
وهي صورة مناقضة للصورة الأولى حيث يمارس الشعب فيها الحكم أو السلطة عن طريق وسيط يُسند إليه ممارسة السلطة في كافة مجالاتها نيابة عنه، والشعب لا يمارس الحكم في هذه الصورة إلا مرة واحدة، وهي المرة التي يختار أو ينتخب فيها نوابه، الذين ينوبون عنه في ممارسة السلطة بعد اختيارهم، وهذا الوسيط هو الهيئة النيابية أو ما يعرف بـ”البرلمان”.
3. الديمقراطية شبه المباشرة:
وهي صورة توفيقية من الديمقراطية المباشرة، والديمقراطية النيابية: ففي هذه الصورة توجد هيئة نيابية، كما في الديمقراطية النيابية، في نفس الوقت الذي يحتفظ فيه الشعب لنفسه ببعض السلطات يمارسها بغير وسيط كما في الديمقراطية المباشرة.
هذه هي الصور الرئيسة الثلاث التي تواجدت عليها الديمقراطية، وأن كانت صورة الديمقراطية في كل بلد من البلدان الديمقراطية قد أخذت طابعاً إقليمياً متميزاً بحيث تختلف صورة التطبيقات لعملية الديمقراطية من بلد إلى بلد، بل تختلف في البلد الواحد من جيل لآخر، وهذا شيء متوقع وليس بالغريب، شأنها في ذلك شأن كل التصورات والأفكار البشرية) (.[26])
المطلب الرابع خصائص الديمقراطية: ـ
- السيادة للشعب مطلقا.
- قداسة الإرادة العامة للجماهير
- رأي الأغلبية هو المعيار الصادق المعبر عن الحقيقة الصادقة.
- إن العقل هو الذي يمثل المرجع الوحيد لسن القوانين، وسواء عقل الفرد أو عقل الأغلبية يتبع المصالح الآنية في نظرته حين يصدر الأحكام علي الأشياء والأفعال طالما هو طليق من كل قيد سابق على صدور الأحكام أو لاحق له. ([27])
المبحث الثالث: هم الفروق بين الشورى والديمقراطية.
الفرق الأول: أن الشورى من حيث مصدرها لفظة شرعية،
وذلك في قوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ([28])
أما الديمقراطية فأصلها مصطلح يوناني مكون من كلمتين، معناهما: حكم الشعب، واليونان أمة وثنية كانت تعبد الأصنام.
الفرق الثاني: بناء على تباين ما بين مصدر الشورى ومصدر الديمقراطية ترتب فرق كبير، وهو أن الشورى ممارسة شرعية لا تتم إلا من خلال تطبيق أحكام الشرع، إذ هي جزء من أحكامه. فمن هنا تكلم أهل العلم عن أحكام الشورى كما تكلموا عن بقية أحكام الشرع الأخرى، إذ هي حكم شرعي شريف، ضمن غيره من أحكام دين رضيه الله للناس، ولذا فإنه بقَدْر ما يكون التطبيق لشرع الله سليمًا وشاملًا جميع مناحي الحياة بقَدْر ما تكون ممارسة الشورى سليمة، إذ هي مربوطة ربطًا وثيقًا بتطبيق سليم لشرع الله.
أما الديمقراطية فلما كانت ذات ارتباط تام بالعلمانية) (SECULARISM) فإنها ظلت على أبعد ما يكون من الخضوع لأحكام أي دين، فلذا جعلت السيادة فيها للأمة لا للدين، ولا يستكثر هذا على مبدأ يقرر رموزه أنه لا قوام له إلا في البيئة العلمانية.
الفرق الثالث: في المجال الذي تتناوله الشورى والديمقراطية: لما كانت الشورى لا تتأتى إلا تحت مبدأ: سيادة الشرع- كما تقدم- فإن المجال الذي تتناوله الشورى لابد أن يكون محدّدًا، فالمنصوصات الشرعية لا مجال للمشورة فيها، وبقيت المجالات الاجتهادية موضع المشورة الشرعية، ولهذا فإنه لو فرض أن أحدًا من أهل الشورى أشار بما فيه مخالفة للشرع لأي اعتبار ادّعاه لوجب أن تردّ عليه مشورته، حتى لو افترضنا أن هذه المشورة جاءت من الأكثرية المخوّلة بالمشورة، وليس لأهل الشورى حق التشريع لما لم يأذن به الله.
أما الديمقراطية فإنها لمّا كانت تقرر أن السيادة للأمة فقد أطلقت العنان للخوض في كل شيء، بما في ذلك القطعيات الشرعية المنصوصة والمجمَع عليها، إذ ليس يوجد في نظر الديمقراطية شيء مقد س لا يمكن الخوض فيه، ولذا أضحى المجال مفتوحًا بل سائبًا ليشرّع البشر بما عندهم من قصور وهوى ما شاؤوا تشريعه، باسم) سيادة الأمة (حتى ولو بخروج) الأمة (اليوم على نفس ما قررته) الأمة (بالأمس، بحيث يمكن أن تقرر الأغلبية منع ما أتاحته من قبل، أو العكس، لا لشيء إلا لأن الأغلبية عدلت عن قرارها السابق!
ولذا نبّه الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز-رحمه الله علي أن من غير اللائق إطلاق لفظ: (المشرع) على من قام بوضع نظام، وبناء عليه صدر قرار مجلس الوزراء بالمملكة العربية السعودية بعدم استعمال كلمة (مشرع) في الأنظمة ونحوها) ([29]).
الفرق الرابع: الشورى مبناها الْتماس الرأي الصائب الذي يسنده الدليل الشرعي ويحقق المصلحة العامة، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر. فقبول المشورة أو ردُّها يلاحظ فيه دائما هذا المعيار الدقيق.
أما الديمقراطية فمبناها الكثرة العددية التي تفرزها نتائج التصويت، بقطع النظر عن الواقع الذي ستصل إليه الأمة لاحقًا، حتى وأن كان في قرار الأكثرية إهدار تام للمصلحة التي يعيها عقلاء تلك الأمة الذين يُغلَبون على أمرهم بسبب إجماع الغوغائية التي لا يتصور كثير منهم أبعاد ما أيدوه من رأي، فضلًا عن أن يدركوا أن مصلحة أمتهم فيه.
الفرق الخامس: المخولون بالمشورة شرعًا ثلة ذات مؤهلات محدّدة استحقوا معها أن يكونوا محل الثقة وتحمُّل المسئولية، لما حباهم الله من خصال قدمْنا الكلام عنها. وقدمنا أن النبي أخبر أن المستشار مؤتمنَ، وعليه فلا ينبغي أن يقدم للمشورة كل أحد.
أما الديمقراطية فلما كان مبناها-كما تقدم- هو مجرد الكثرة العددية لا مصلحة الأمة التي تترجح لأهل الأمانة والدراية فإنه لم يشتَرط لا في الناخب ولا المنتخَب كثير من المزايا التي تؤهل المرء للإدلاء برأي سليم أو اختيار وجهة صائبة، بمعنى أن الأهلية التي تمكّن المرء من القيام بأعباء المسئولية لم تكن محل اكتراث الديمقراطية. ولذا كان ضابط الاستحقاق في الديمقراطية هو الحصول على العدد الأكثر، لأن الكمّ بكل سهولة مقدم في الديمقراطية على الكيف.
أما الديمقراطية فتتيح لأصحاب الفجور والفحش، ولذوي السذاجة وقلة البصيرة من العوام والرعاع المشاركة بالرأي، حتى وإن رجّح هؤلاء بمجرد كثرتهم رأيًا له أبلغ الضرر بأمتهم.
الفرق السادس: لما كانت الشورى ذات أعضاء مأمونين، ولها هدف شريف معلوم، ومجال محدد مرسوم ترتب على ذلك أنها بقيت مصدر أمان للأمة، فمن أعسَّر الأمور على العدو أن يتوصل من خلال الشورى إلى الإضرار بالأمة.
اللهم إلا أن يختار لعضويتها من ليس أهلًا للأمانة فهذا خطأ من جهة من اختار،
لا من جهة التشريع نفسه، فليحسب الخطأ على أهله، لا على شرع الله تعالى،
أما الديمقراطية فإن مَن سَبَر بدقة حال مجتمع يعاديه، ووقف على نقاط القوة والضعف فيه فإن بإمكانه أن يتغلغل بسهولة إلى ذلك المجتمع من خلال السعي إلى توجيه الرأي العام لإقرار أمر يكون فيه بالغ الضرر بذلك المجتمع الذي يعاديه، ولا سيما إذا استثمر الإعلام، وبث الأموال لتعزيز ما أراد، وبذلك يسهل على العدو أن يرسخ ما أراد من الإضرار من خلال توجيه الكثرة إلى ما فيه خلاف المصلحة العامة لذلك المجتمع الذي يعاديه. وخاصة في عالمنا الثالث
ولا يخفى أن من اليسير أن يوجه الدهماء إلى ترسيخ ما هو ضرر محض على مجتمعهم، لسهولة التلاعب بهم، استثمارًا لجهلهم وقلة بصيرتهم، ولذا قال إسحاق بن راهويه: (احذروا الغوغاء، فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء) ([30])
الفرق السابع: يتطرق للديمقراطية دومًا وجوه من النقض بديعة، يبقى معها أنصارها في حيرة حقيقية، منها أن الشعب الذي جعلوه المعول وإليه وحده المردُّ والرجوع لو قرّر بأكثريته رفض الديمقراطية، فما عسى هذا المبدأ البائس أن يصنع؟ فإنه أن قَبِل خيار الشعب فلابد من إلغاء الديمقراطية، لأن منطقها يقتضي هذا، فعند ذلك تنتهي الديمقراطية من خلال حكمها على نفسها بجعل الشعب مصدرًا ومرجعًا. أما أن منعت رغبة الشعب برفض الديمقراطية فذلك يعني أنها لابد أن تنقلب إلى ما يسمى بالدكتاتورية التي يدعي أنصار الديمقراطية أن من أولوياتهم محاربتها وإزالة بطشها عن كأهل البشرية، بالنظر إلى أنها ضد للديمقراطية من
أما الشورى المنضبطة بالشرع فلا يكون فيها شيء يتطرق من خلاله النقض، كما ذكرنا عن الديمقراطية، لما تقدم من كون الشورى على جانب عظيم جادا من التنظيم، سواء من جهة مجالها المحدد، أو رجالاتها المؤهلين، أو هدفها الدقيق القائم على تحقيق مصلحة الأمة وفق ضوابط الشرع الكريم، فهي جزء من دين المسلم، ولا يطلب المسلم أبدًا أن يزال دينه عن واقعه ويستبدل به غيره، فإنه إن كان مسلمًا قد رضي الإسلام دينًا وتسمى باسمه، فذلك يستلزم أن يستسلم لله تعالى ولا يبتغي غير حكمه عز وجل.
الفرق الثامن: أن نتيجة الشورى غير ملزمة: والشورى إنما تكون في المسائل الاجتهادية فقط، أما الديمقراطية فتقدم أن نتيجة التصويت فيها ملزِمة إذا أسندتها الأكثرية، وأن أدّى ذلك الاعتبار للأكثرية إلى ما أدى إليه من الضرر بالأمة في خلقها أو أمنها أو اقتصادها أو غير ذلك.
الفرق التاسع: أن الشورى تعزّز أمر الثبات على المبدأ الحق وعدم تغييره، لأن تغيير الحق انكفاء عنه إلى الباطل وارتداد عن الخير إلى الشر وعن الصواب إلى الخطأ.
أما الديمقراطية فإنها قد جعلت (التغيير) أمرًا مرتبطًا بثقافة الديمقراطي لا يحيد عنه، فالديمقراطي-كما تقدم- هو من يغيّر أفكاره ومبادئه وقيمه، لأن البنى الاجتماعية في نظره لا ينبغي أن تبنى على قواعد ثابتة من الأساس، ولا يصح أن يوجد منظور جماعي واحد للخير والفضيلة، ولما كان (التغيير وعدم الثبات) هو ما ترسخه الديمقراطية، تفرع عن ذلك أن الحق والعدل غير مردودين إلى أمر ثابت يرجع له الديمقراطي ويلزمه
الفرق العاشر:-ـ هاهنا فرق يتعلق بتحقيق الهدف المربوط بالمبدأ، فالشورى حقّقت الحكمة من مشروعيتها بطريقة لا لبس فيها، فلذا كانت العصور التي طبقت فيها الشورى كما ينبغي أحسن العصور
أما الديمقراطية فإن هدفها المعلن، وهو تمكن الشعب من الحكم مما لم يقع عبر تاريخها، ولذا بدت الديمقراطية في نظر كثير من مفكري الغرب مجرد خيال أو وَهْم، لأن قِلّة قليلة هي التي تحكم وتسيطر على مقاليد الحكم في ضوء نظرتها ومصالحها،
المبحث الرابع: مفاسد الديمقراطية:
- الديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة، حيث يمكن-في ظل هذا النظام الطاغوت- لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزباً وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر.
- وكذلك تفتح الباب على مصراعيه للشهوات والإباحية، من خمر ومجون وأغاني وفسق وزنا ودور سينما، وغير ذلك من الانتهاكات الصارخة لمحارم الله، تحت شعار الديمقراطية المعروف: “دعه يعمل ما يشاء، دعه يمر من حيث يشاء” وتحت شعار: “حماية الحرية الشخصية”!!
- وتفتح الباب أيضاً للتفرق والاختلاف، استجابة للمخططات الاستعمارية الرامية إلى تمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات ووطنيات ودويلات وعصبيات وأحزاب،
- النظام الديمقراطي يعطل الأحكام الشرعية؛ من جهاد وحسبة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأحكام الردة والمرتد والجزية؛ وغير ذلك من الأحكام.
يوصف المرتدون والمنافقون في ظل النظام الديمقراطي بأنهم وطنيون وقوى خيِّرة ومخلصة؛ وهم بخلاف ذلك شرعاً.
- الديمقراطية لا تفرق بين العالم والجاهل والمؤمن والكافر والذكر والأنثى، فالجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي اعتبار للمميزات الشرعية.
- إن قضية الولاء والبراء تظل غامضة في ظل النظام الديمقراطي، ولذلك يصرح بعض السالكين في هذا الطريق بأن خلافهم مع الاشتراكيين والبعثيين وغيرهم من الأحزاب العلمانية من قبيل اختلاف البرامج لا المناهج، ومن جنس اختلاف المذاهب الأربعة، ويعقدون المواثيق والتحالفات بألا يكفر بعضهم بعضاً ولا يخون بعضهم بعضاً، ولذا يقولون بأن الخلاف لا يفسد للود قضية!!
هذا الطريق يؤدي إلى قيام التحالفات المشبوهة مع الأحزاب العلمانية؛ كما هو الحاصل اليوم.
- الدخول في المهزلة الديمقراطية يؤدي غالباً إلى فساد المقاصد والنيات، بحيث يصبح كل حزب همه في نصرة حزبه؛ واستعمال كافة الوسائل لتجميع الناس حوله؛ وخاصة وسيلة التدين والخطابة والوعظ والتعليم والصدقات وغير ذلك. يؤدي أيضاً إلى فساد الأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والصراحة والوفاء، ويحل محل ذلك الكذب والمداهنة والغدر.
- وهو من أخطرها، أن طريق الديمقراطية والانتخابات يؤدي إلى تمكين الكفار والمنافقين من الولاية على المسلمين، بطريقة يظنها بعض الجهلة شرعية، وقد، قال الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) ([31]). فكم يحصل بهذا من التغرير والتدليس على عوام المسلمين وإيهامهم بأن طريقة الانتخابات شرعية ؟!!.
- في ظل الديمقراطية تنتعش البدع والضلالات بشتى أنواعها ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك، بل إنهم يجدون في ظلها الدعم والتشجيع من المنافقين في الداخل ومن الأيادي الخفية في الخارج، ولله في خلقه شؤون.
- هذا الطريق يؤدي إلى الزعزعة الأمنية في البلاد، وحدوث صراعات حزبية لا أول لها ولا آخر؛ فما حلت الديمقراطية في بلد إلا وحل معها الخوف، والقلق والنزاعات العقدية والمذهبية والعصبية والقبلية والسلالية والنفعية وغير ذلك من الاضطرابات المعلومة.
خاتمة
أولاً: النتائج
- ثمة تباين بين الشورى والديمقراطية من حيث المعنى والمفهوم والمصدر والاختصاص والبنية العقدية والفكرية لكل منهما.
- طبقت الشورى في العصور الاسلامية فكانت ثمارها حقيقية وأنها أمر رباني
- تختص الشورى فيما لا نص له، أما المنصوص عليها فهي ثوابت لا تقبل التغير
- ثبت أن الديمقراطية هي حكم الأقلية للأكثرية وأنه لا يُعمل بها الّا في العلمانية لأنها تعطي الحرية المطلقة لنواب الشعب للتشريع
- الديمقراطية لها مفاسد ولا تتوافق مع العقيدة الإسلامية.
ثانيا/ التوصيات:-
- فالواجب على المسلمين أن يعودوا إلى دينهم مصدر عزتهم، حيث رفع الله بهذا الدين سلفهم من وضع جاهلي كانوا عليه قبل الإسلام إلى قيادة البشرية نحو ما فيه سعادتها في الدارين، وكانت حضارة الإسلام نمطًا فريدًا لا يدنو منه نمط، فضلًا عن أن يقبل المقارنة، وإنما وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه في واقعها المؤلم حين التفت كثير من أبنائها إلى تيارات التيه، يحسبون أن فيها رفعة وعزة، وواقعها عند من عرفها وخبرها أنها كالسَّراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. فما أعجب حال قومٍ جعل الله عز الدنيا والآخرة بين أيديهم، ثم يعدلون عنه إلى غيره، يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
- على الكتاب والباحثين المسلمين كشف زيوف هذه المذاهب وتوضيح ما فيها من خلل حتي لا يقتر ابناء المسلمين بها وعليهم ابراز مزايا وخصائص الاسلام ونظمه.
- تشجيع الدراسات المقارنة بين المبادئ الإسلامية وغيرها مما هو من وضع البشر حتى يتضح تهافت المبادئ البشرية وقصورها بقصور واضعيها.
هذا وبالله التوفيق
المراجع والمصادر
- الماوردي- محمد بن الحسين الفراء الحنبلي- الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تعليق محمد حامد الفقي، بيروت، دار الفكر، 1311 هـ.
- الطبري- أبي جعفر، محمد بن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك، بيروت، دار الكتب العلمية، 1314 ه.
- ابن كثير- عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، 1311 ه.
- السعدي ـ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الثانية، 1314 ه.
- الطبري-ـ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري جامع البيان في تفسير القرآن، دار الحديث بالقاهرة، 1314 ه.
- القرطبي- أبي عبد الله، محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية.
- الأصفهاني- لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني،- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر، بيروت.
- ابو داود- أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني- سنن ابي داود، تعليق عزت عبيد وعادل السيد، دار الحديث، حمص، ط. الأولى 1311 ه.
- البيهقي- لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي- السنن الكبرى، دار المعرفة، بيروت 1311 هـ.
ابن ابي العز-ـ لصدر الدين محمد بن علاء الدين علي الأذرعي
- الصالحي ابن أبي العز الحنفي-ـ شرح العقيدة الطحاوية،-، تحقيق د.التركي والأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. الثانية، 1311 هـ.
- ابن سعد-ـ لأبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري،- الطبقات الكبرى، دار بيروت، 1311 ه.
- الشريف-ـ محمد شاكر الشريف- العلمانية وثمارها الخبيثة، الرياض، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1311 ه.
- ابن حجر-ـ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر،- فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، ط. الأولى، 1321 ه.
- الشوكاني- محمد بن علي الشوكاني- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير،-، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- ابن منظور- أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1312 ه-.
- ابن حنبل-ـ أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني- المسند، دار الكتب العلمية،-ـ بيروت، ط. الثانية 1318 ه.
- الصنعاني- لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني-ـ المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط. الثانية 1311 هـ.
- النووي-ـ لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ـ، المطبعة المصرية ومكتبتها.
- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، من إصدار الندوة العالمية، الطبعة الثانية، 1311 ه.
- ابو زيد- للشيخ بكر أبو زيد ـ معجم المناهي اللفظية، الرياض، دار العاصمة، الطبعة الثالثة، 1314 هـ.
- العيد- الدكتور سليمان العيد-ـ النظام السياسي في الإسلام، الرياض، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1322 ه.
- مفتي-ـ للدكتور أحمد علي مفتي-ـ نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية، من مطبوعات مجلة البيان، الطبعة الأولى، 1321
- الخالدي-ـ د/محمود الخالدي-ـ نقض النظام الديمقراطي-ـ ـ طبعة الأولى 1984م
Comparison between Shura and Democracy
([1]) المصباح المنيرـ أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري ــــ المكتبة العصريةــــ ج ـ ص170
([5]) 1/ الشوكاني ـــ فتح القدير ج1:ص394 ــ393 ـ
([8]) / محمد بن سعد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري ــ الطبقات الكبرى ـ ج 3 ـ ص567ــ المحقق : إحسان عباس : دار صادر – بيروت الطبعة : 1 – 1968 م
([9]) / محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى : 256هـ) ـ الجامع الصحيح ـ ج9 ــ ص138، دار الشعب – القاهرة الطبعة : الأولى ، 1407 – 1987
([10]) / الإمام أحمد بن حنبل ــ المسند ـــ ج29 ـ ص518
([12]) ابن كثير ــــ التفسير ــ ج1:ص421ــ422
([14]) الأحكام السلطانية : الماوردي ـج 1 ـ ص19/
([18]) سنن البيهقي الكبرى: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي : مكتبة دار الباز – مكة المكرمة ، 1414 – 1994 ج10 ص114
([20]) / الشوكاني ـــ فتح القدير ج1:ص394
([21]) محمد قطب ــ مذاهب فكرية ـ ص201
([22]) / محمود الخالدي ــ نقض النظام الديمقراطي ـــ ـص 17
([23]) / محمد شاكر الشريفـ ـــ حقيقة الديمقراطية ـــ ص 1
([24]) / عبدالفتاح حسين العدوي ـــ الديمقراطية وفكرة الدولة،: ص14
([25]) / محمد الدلال ــ إشكاليات الديمقراطية،: ص29.
([26]) محمد شاكر الشريفـ ـــ حقيقة الديمقراطية ــــ ص 2
([27]) / محمود الخالدي ــ نقض النظام الديمقراطي ـــ ـص21
([29]) / انظر: معجم المناهي للشيخ بكر أبو زيد ص 511