مجلة العلوم الإسلامية

السلم المجتمعي: مقومات ترسيخه وأثره في نهوض المجتمع المسلم

Societal Peace: The Elements of its Entrenching and the Impact on the
Advancement of the Islamic Community

Yousef A.H Keleibi

Faculty of Islamic Da’wah || Qalqilia || Palestine

DOI PDF

Tab title
The creation a societal peace between all the components of the Muslim community is a demand that Islamic Sharia is sought to be achieved. The problem statement in the present study lies in the absence of societal peace culture by some Muslims, at the same time this issue is not clarification for its importance. Therefore, the Islamic Shariah sought to enhance and entrench due to its importance and as being one of Maqased al-Shariah. The study aims to demonstrate the importance of societal peace to the Muslim community and the mechanisms of the entrench, as well as show the implications on the creating of the societal peace in the Muslim community. The study followed the descriptive and analytical approach, through described the societal peace and security. Furthermore, description and analysis of the elements of societal peace and its impact on the Muslim community. The study concluded that one of the purposes of Islamic shariah is to establish the societal peace within the Muslim community, added to that the presence of factors considers one of the elements of the consolidation of community peace. Lastly, the study concluded that the societal peace is one of the cultural advancement factors and the situation is provided by the societal peace is contributed to progress, development and advancement. Keywords: Societal Peace; Community Security; Muslim Community; Advancement of Civilization.

السلم المجتمعي: مقومات ترسيخه وأثره في نهوض المجتمع المسلم

يوسف عطية كليبي

كلية الدعوة الإسلامية || قلقيلية || فلسطين

Tab title
إن إيجاد حالة من السلم المجتمعي بين كافة مكونات المجتمع الإسلامي مطلب سعت الشريعة الإسلامية إلى تحقيقه، وتكمن مشكلة الدراسة بغياب ثقافة السلم المجتمعي عند بعض المسلمين، وعدم تناول هذا الموضوع ببيان أهميته وكونه مقصداً شرعياً مهماً سعت الشريعة الإسلامية إلى ترسيخه، وتهدف الدراسة إلى بيان أهمية السلم المجتمعي على المجتمع المسلم وآليات ترسيخه، إضافة لعرض الآثار المترتبة على إيجاد حالة من السلم المجتمعي على المجتمع المسلم، واتبعت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي، وذلك من خلال وصف السلم والأمن المجتمعي، بالإضافة إلى وصف وتحليل مقومات السلم المجتمعي وآثاره على المجتمع المسلم، خصوصاً المتعلقة بالحقوق السياسية والحريات، وخلصت الدراسة إلى أن من مقاصد الشريعة الإسلامية هو ترسيخ حالة من السلم المجتمعي داخل المجتمع المسلم، بالإضافة إلى وجود عدة عوامل تعد من مقومات ترسيخ السلم المجتمعي، كما خلصت الدراسة إلى أن السلم المجتمعي هو أحد عوامل النهوض الحضاري، فالحالة التي يوفرها السلم المجتمعي تعد محفزة نحو التقدم والتطور والبناء. الكلمات المفتاحية: السلم المجتمعي، الأمن المجتمعي، المجتمع المسلم، النهوض الحضاري.

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. تعاني أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم من غياب للسلم والأمن، وانتشار للقتل والخوف، وهذه الحالة من انعدام الأمن هي مما اقترفت أيدي الناس، والسلم والأمن المجتمعي له أسس وعوامل يجب ترسيخها حتى ننعم به، وقد اشتملت الشريعة الإسلامية على توجيهات عدة لترسيخ هذه الحالة من الأمن والسلم المجتمعي، وكما أن للسلم والأمن المجتمعي عوامل توجده وترسخه، فإن له آثار حال وجوده أو عدمه تنعكس على المجتمع، وهذه الآثار إما أن تكون إيجابية حال وجوده، أو سلبيه حال انعدامه، وانطلاقاً من هذا الأمر جاءت هذه الدراسة للبحث في السلم المجتمعي الغائب عن أغلب مجتمعاتنا، واستعراض أهم عوامل تثبيته خصوصاً ما هي متعلقة بالحقوق السياسية والحريات، وبيان آثار السلم والأمن المجتمعي على المجتمع المسلم، كل ذلك من خلال نظرة شرعية مقاصدية واقعية، وحتى يكتمل البحث بصورته الصحيحة، فقد انتظم في ثلاثة مباحث عدا المقدمة والخاتمة، فتناول المبحث الأول التعريف بالسلم المجتمعي وبيان حقيقته، فيما تناول المبحث الثاني مقومات ترسيخ السلم المجتمعي، وأخيراً اشتمل المبحث الثالث على آثار السلم المجتمعي على المجتمع الإسلامي.

مشكلة الدراسة:

تكمن مشكلة الدراسة في غياب حالة السلم والأمن المجتمعي في أغلب المجتمعات الإسلامية، وكثرة التساؤلات عن أسباب هذه الحالة غير المرضية، وعن مقومات إحلال السلم والأمن بدل الخوف، كل ذلك مع ظهور أصوات تبين السبيل إلى استبدال حالة الخوف إلى حالة السلم من منظور لا يستعين بتوجيهات الشرع الحنيف، فجاءت هذه الدراسة لتسليط الضوء على مقومات إيجاد حالة السلم في المجتمع الإسلامي، خصوصاً المتعلقة بالحقوق السياسية والحريات، وبيان آثار السلم والأمن على المجتمع المسلم، كل ذلك من خلال السبر في توجيهات وإشارات الشريعة الإسلامية، مع استحضار الواقع المعاش.

أسئلة الدراسة:

تتحدد مشكلة الدراسة في الأسئلة الآتية:

أولاً: ما حقيقة السلم والأمن المجتمعي.

ثانياً: ما مقومات إيجاد وترسيخ الأمن والسلم المجتمعي في المجتمع الإسلامي.

ثالثاً: ما آثار السلم والأمن المجتمعي على المجتمع الإسلامي.

أهداف الدراسة:

تهدف الدارسة إلى تحقيق جملة من الأهداف، تكمن بالآتي:

أولاً: بيان حقيقة السلم والأمن المجتمعي.

ثانياً: توضيح مقومات إيجاد وترسيخ الأمن والسلم المجتمعي في المجتمع الإسلامي.

ثالثاً: استعراض آثار السلم والأمن المجتمعي على المجتمع الإسلامي.

منهجية الدراسة:

إضافة إلى المنهج الاستقرائي، فقد اتبعت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي، وذلك من خلال وصف السلم والأمن المجتمعي، بالإضافة إلى وصف وتحليل مقومات السلم المجتمعي وآثاره على المجتمع المسلم.

الدراسات السابقة:

مما لا شك فيه أن موضوع السلم المجتمعي قد تناولته دراسات الباحثين، ويظهر من مجموع الدراسات المتناولة لهذا الموضوع، اهتمامها بشق معين وبحث أثره على السلم المجتمعي، كالحوار وأثره على السلم المجتمعي، أو الزكاة وأثرها على السلم المجتمعي، ومن جملة هذه الدراسات:

أولاً: دراسة صايل أمارة، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي(1) تناول فيها الباحث الحقوق الدينية والحقوق العامة لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، واستعرضها فقهياً، ثم تناول الباحث في المبحث الأخير مآلات ضمان حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي على السلم المجتمعي، واعتبر الاعتداء على حقوقهم مدعاة إلى الإخلال بالسلم والأمن المجتمعي.

ثانياً: دراسة مي نايف، لغة الحوار وأثرها على السلم الاجتماعي(2) تناولت فيها الباحثة تعريف الحوار وأدبياته وأسسه، وتضمنت توجيهات للمتحاورين حتى يكون حواراً بناءً، يسهم في إيجاد حالة من التفاهم والتقارب.

ثالثاً: دراسة صبحي الريان، دور الاختلاف في تحقيق السلم الاجتماعي(3) تناول الباحث في دراسته مفهوم الاختلاف في القرآن الكريم، وبين أهمية ترسيخ مبدأ الاختلاف في المجتمعات المعاصرة، واعتبره ضرورة ملحة لمواجهة التخلف والعنف.

رابعاً: دراسة محمد عمارة، مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام(4) وهو كتاب منشور تحدث فيه الكاتب عن العدل الاجتماعي، واعتبره الفريضة الغائبة والمنشودة، وبين أن الأمن هو ثمرة الإيمان، وأصل لهذه الفكرة، واقترح الكاتب آليات عملية لتحقيق العدالة الاجتماعية، متعلقة بصندوق التنمية بالركاز، وصندوق الزكاة العامة، والوقف، وتحريم استثمار المال الإسلامي خارج الديار الإسلامية.

هذه بعض الدراسات التي تناولت موضوع السلم والأمن المجتمعي، ويتضح أن أغلب الدراسات قد تناولت جانباً وحقلاً معيناً وبينت أثره في تحقيق السلم والأمن المجتمعي، ولم يعثر الباحث في حدود اطلاعهعلى دراسة تناولت مقومات الأمن والسلم المجتمعي المتعلقة بالحقوق السياسية والحريات، وهذا ما عمدت الدراسة إليه، فذكرت بعض هذه المقومات، وأصلت لها، كل ذلك مع إعمال النظرة المقاصدية، وبيان أثرها في إيجاد حالة من السلم المجتمعي وتعزيزها، إضافة إلى بيان أثر إيجاد وترسيخ السلم المجتمعي على نهوض المجتمع المسلم.

خطة الدراسة

وقد قسمت البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة.

المقدمة

المبحث الأول: ماهية السلم المجتمعي وحقيقته

المبحث الثاني: مقومات ترسيخ السلم المجتمعي

المبحث الثالث: آثار السلم المجتمعي على المجتمع الإسلامي

الخاتمة: النتائج والتوصيات

المبحث الأول: ماهية السلم المجتمعي وحقيقته

عرف محمد عمارة الأمن المجتمعي بأنه الطمأنينة التي تنفى الخوف والفزع عن الإنسان فرداً أو جماعة في سائر ميادين العمران الدنيوي(5).

وعرفه محمد عمر بأنه: “توفير سبل الحياة بشكل يمكن لكل فرد في المجتمع أن يشعر بالطمأنينة، وتتحقق له السلامة على نفسه وماله وعرضه وفكره من خلال علاقات طيبة مع الآخرين، ومؤسسات قادرة على توفير الحماية له“.(6)

ويمكن القول بأن السلم المجتمعي يعني إيجاد حالة من الاطمئنان والارتياح والثقة والأمن والتعاون والتكافل داخل المجتمع، وتأمين الحاجات الضرورية للإنسان سواء الحاجات النفسية أو الجسمية، وغياب السلم الاجتماعي يعني الخوف وغياب الأمن وإضمار الحقد وإشاعة جو من عدم الارتياح بين أفراد المجتمع؛ بحيث لا يأمن الجار جاره، والعلاقة بين الناس قائمة على المناكفة والتخاصم لا المحبة والتوائم، بالإضافة لوجود حالة من عدم إشباع للحاجات الإنسانية النفسية والجسمية للإنسان.

إن السلم المجتمعي مطلب إنساني ضروري لتستقيم الحياة، وبدونه يعيش الإنسان حالة من الخوف وعدم الارتياح يصاحبها حالة من القلق على المصير، فالاستقرار وإيجاد حالة من السلم والأمن داخل المجتمع نعمة توجب شكر الله تعالى؛ فهي من أجَلِّ النعم وأعظمها، لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه السلامجعل أول دعواه استتباب الأمن في مكة، فقال الله تعالى على لسانه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ(7)، في المقابل فقد عدَّ الله تعالى وجود حالة من الخوف والجوع داخل المجتمع ابتلاء منه جل في علاه؛ فقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(8)، فالأمن المجتمعي ضرورة من ضرورات استقامة الحياة، يقول محمد عمر: “والأمن المجتمعي ضرورة حياة، فإذا كان الأمن الفردي من الحاجات الضرورية للإنسان، فإن الأمن المجتمعي يأخذ نفس الضرورة؛ لأنه لا يمكن تحقيق الأمن الفردي بدون أمن الجماعة(9).

إن إيجاد حالة من السلم والأمن المجتمعي ضرورة ومقصد شرعي يجب العمل على إيجاده في المجتمع المسلم، وفي ذلك تقول جيهان عبد الحليم: إنَّ أهمية الأمن والاستقرار الاجتماعي قد تجاوزت الحق الاجتماعي لتجعله فريضة إلهية، وواجباً شرعياً، وضرورة من ضرورات استقامة المجتمع الإنساني، وأن إقامته تعتبر أساساً لإقامة الدين، واعتبرته ضرورة ملحة لأي مجتمع بكل شرائحه مسلمين وغير مسلمين(10). ويذكر بوزيان أن حفظ النظام والأمن مقصداً مسلماً عند الفقهاء وإن لم يصرحوا بذلك(11).

المبحث الثاني: مقومات ترسيخ السلم المجتمعي

إن إيجاد حالة من السلم الاجتماعي لا بد لها من مقدمات وأسباب، والسلم والأمن نعمة من نعم الله تعالى لها أسباب لاستحقاقها من الله تعالى، ولها مسوغات لرفعها من قبل الله تعالى، واستحقاقها أو رفعة نتاج ما صنعت يد الإنسان، يقول تعالىوَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(12)، وبناء على ذلك وجب على العقل المسلم البحث في مقومات السلم والأمن المجتمعي من خلال السبر في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك إعمال للتفكر والتدبر الذي أمرنا به الله تعالى في محكم تنزيله في أكثر من موضع.

ويمكن استنتاج بعض مقومات السلم المجتمعي؛ وهي كالآتي:

  1. فهم سنة الاختلاف

لقد شاءت إرادة الله تعالى أن جعل كل ما في هذا الكون مبنياً على الاختلاف، سواء أكان بشراً أم جماداً أم حيوان، وجعل سبحانه الاختلاف سنة كونية من سننه لحكمة عظيمة جليلة، فلو نظر الواحد منا إلى الحيوانات لوجدها مختلفة في أشكالها وألوانها ومأكلها، وكذلك في الجمادات، حتى أنه ليجد في الذرة اختلاف متحصل في النيترونات والإلكترونات، أما بالنسبة للإنسان فتظهر هذه السنة من خلال اللون والشكل واللغة والمعتقد والثقافة، وهذا الاختلاف عامل بناء للأمم وظاهرة صحية في المجتمع إن أحسن التعامل معه.

لقد أوجد الله الاختلاف وجعله سنة كونية في كل شيء، ولو شاء الله تعالى لجعل البشر متفقين، لكنه جل شأنه لحكمة عظيمة أوجد هذا الاختلاف، يقول جل شأنه:وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)، وقد فسر بعض أهل التفسير الاختلاف المقصود بالآية الكريمة: أن الله تعالى خلق الناس مختلفين في الأديان بين مسلمين ويهود ونصارى ومجوس، وأن الناجين هم أهل الحق والإيمان من المسلمين، وقال بعضهم وللاختلاف خلقهم(14).

وأخبر الله تعالى بالاختلاف الحاصل في الأجناس والأعراق، وجعل ذلك سبباً للتعارف والتآلف لا للتناحر والتباغض، وأكد على مساواتهم أمام الله تعالى، وأن ميزان الخيرية عنده جل شأنه هو التقوى، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (15).

إنَّ اختلاف الناس في معتقدهم الديني أمر تابع لهذه السنة الإلهية، ومحقق لسر من أسرارها، فوجودنا على هذه الأرض هو محض ابتلاء واختبار، يقول تعالى:إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(16)، ويبين القرطبي من خلال هذه الآية أن وجودنا على هذه الأرض هو للاختبار والابتلاء، وأن الله تعالى هو المتكفل بحساب الناس يوم القيامة، حيث قال: “أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم(17).

يقوم المجتمع الإسلامي على العقيدة الربانية، ولكنه ليس بمعزل عن الاختلاف الحاصل في المعتقد الديني، وليس من الصحيح حظر الآخر والمخالف في المعتقد، بل يجب استيعابه داخل المجتمع الإسلامي وتنظيم أسس التعامل معه. إن هذا الاختلاف والتنوع إنما هو ظاهرة صحية مجتمعية، ووظيفتنا كمسلمين تبليغ الدعوة وتفهيم الناس قواعد ديننا الحكيم وإقامة الحجة عليهم، فمن شاء بعدها الإسلام فله ذلك، ومن آثر البقاء على معتقده فله ذلك ويتحمل بعدها نتائج قراره وأمره إلى الله تعالى، فهو الذي يحاسب الناس على معتقدهم وليس البشر، فالمسلمون دعاة لا قضاة، ولا يمنع ذلك التعايش معهم بسلم وأمان، قال تعالى:لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(18).

الاختلاف ظاهرة صحية سليمة لأي مجتمع حتى في الاختلاف الديني، ولكن هذا الاختلاف قد نحسن تطويعه ليكون عنصر بناء وارتقاء في المجتمع، وذلك إذا ما تعاملنا مع المختلف وفق ضوابط الشرع المتمثلة بقبوله ابتداءً، ودعوته بالتي هي أحسن، ومعاملته وفق النظرة الإنسانية والإسلامية الحسنة المبنية على البر والقسط، والوقوف على الأرضية المشتركة فيما بيننا والتي أهمها الشراكة في الإنسانية واحترامها، عند ذلك يكون الاختلاف عامل بناء وتكامل. في المقابل قد يكون الاختلاف الديني شراً ووبالاً على المجتمع بأسره، وذلك جرّاء ما اقترفت أيدينا وعقولنا، فمتى وجد الفكر الإقصائي الضيق، الناظر للأمور بحدّية تامة ولا يقبل إلا نفسه ومن على هواه، فهنا تتولد لدى المجتمع بأسره الضغينة وإضمار الشر والسوء، وقد تتحول إلى ممارسة عملية تهلك المجتمع بأسره دون تفريق، والأدهى من ذلك ممارسة هذا الفكر عملياً باسم الدين، واستشعار معية الله في تنفيذ هذا الفكر التطرفي، وفي حال ساد هذا الفكر وغاب فهم سنة الاختلاف بكل جوانبها فإنه من المحتم أن ينعدم السلم والأمن المجتمعي داخل المجتمع المسلم، فمن الأسس التي ترسخ السلم المجتمعي هو أن نستوعب سنة الاختلاف التي أوجدها الله تعالى.

إن الإيمان بهذه السنة الإلهية مدعاة لإيجاد حالة من السلم بين مكونات المجمع المختلفة بالاعتقاد الديني، وتبقى سمة التعايش السلمي المبنية على أسس الشراكة الانسانية والوطنية بين المسلمين والأقليات غير المسلمة هي الغالبة، ويكون المحدد لملامح تعاملنا معهم الشرع لا الهوى، فالانطلاق من النقاط المشتركة يعد أرضية لإيجاد حالة من السلم المجتمعي فيما يتعلق بالمسلمين وغيرهم داخل المجتمع الإسلامي.

  1. ضمان الحريات والحقوق لجميع مكونات المجتمع

من أهم مقومات السلم المجتمعي لأي مجتمع بشري وجود ضمانة للحريات والحقوق تكفل لجميع مكونات الشعب ممارسة حريتهم وفق الضوابط المعقولة، بالإضافة لتمتعهم بحقوقهم، وعدم مصادرة حقوقهم المشروعة، ووجود حالة من السلم المجتمعي يقوم على منح الجميع حقوقه ومعاملتهم بمنطلق المساواة دون تمييز بين أفراد المجتمع لأسباب عرقية أو لغوية أو دينية إلا ما استثني عرفاً وديناً، فهذه الحقوق منَّة من الله تعالى يستوي فيها البشر، وليست منة من حاكم، يقول صايل أماره: “إن الضمان الوحيد لتكريس السلم كواقع في أي مجتمع هو ضمان حقوق أفراده، وهذا الضمان ليس من باب الإحسان أو المنة، وإنما هي واجبات على الدولة وحق مقرر لكل مواطن فيها بمقتضى العقد الاجتماعيوبهذا السلوك نخلق الانتماء عند المواطن لوطنه ولمجتمعه(19)“.

إن الحفاظ على حريات الناس وكفالتها لهم تعد مقصداً من مقاصد الشريعة التي تظافرت النصوص على كفالتها للشخص، يقول بوزيان: “فالحريات مقاصد عامة، وقيم عليا في المجتمع، يتوجب على السلْطة عدم المساس بها سلباً ومصادرة، ولها أن تعمل جاهدة على تنظيمها وتمكين الناس من الانتفاع بها على قدم المساواة بينهم(20)“.

إن شعور الإنسان بإهدار حقوقه وكرامته الإنسانية يدفعه للشعور باللامبالاة تجاه النظام العام للدولة، وشعوره هذا سيقوده نحو معاداة النظام العام ومكونات المجتمع الأخرى، والذي بدوره سيؤدي إلى إحداث حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والأمن المجتمعي(21).

فالطبيعة البشرية تخلص لمن أكرمها،(22) وحَفظ كرامتها، وأعلى من شأنها، ومنحها حقها، وعاملها بإنسانية، فإذا ما شَعر المواطنون بهذه الأمور فسيكون ذلك سبيلاً لحسن انتمائهم ووفائهم للنظام الذي عاملهم وفق هذا المبدأ، في المقابل، فإن النفس البشرية تبغض كل من ظلمها أو أفقدها إنسانيتها أو عاملها بانتقاص وتمييز، فالفطرة البشرية مجبولة على حب من أحسن إليها، ووجود هذه الحالة الشعورية وتشبع النفس بها تقود صاحبها نحو تكريس الأمن داخل هذا المجتمع ومحاربة كل من يحاول زعزعته.

إن الشعور المتولد عن انتقاص الحق أو حرمانه هو شعور سلبي قد تكون له انعكاسات وخيمة على المجتمع بأسره، فشعور المواطن أنه من الدرجة الثانية يفقد الشخص انتماءه لوطنه ومجتمعه ويصبح على استعداد للتحالف حتى مع الشيطانلمحاربة من سلبه حقه، فيكون فريسة سهلة لأعداء الأمة الإسلامية، فيتعاون معهم على حساب دولته التي لم تحفظ كرامته ولم تحسن معاملته، فيكون ذلك شراً على المجتمع بأسره، يقول أمارة: “إن الاستعلاء على الناس وإشعارهم بالدونية يخلق بغضاً في قلوبهم سرعان ما يتحول إلى عداءإن هذا الاستعداء يخلق حالة من الاحتقان الاجتماعي لا بد أن تنفجر على شكل صراعات تغذيها دول استعمارية أوجدنا لها مبرر(23)“.

فالكبت ومصادرة الحريات هي الأرضية الخصبة لخلق جماعات متطرفة سواء من المسلمين أو غيرهم، وأما الفكر المتسامح القائم على العدل والحرية المضبوطة فكر يخلق جواً عاماً من المحبة والانتماء، وفي حال ظهور جماعات متطرفة، فإن أغلبية الشعب ستلفظها وتحاربها، ويكون نهجاً مرفوضاً من الجميع، فتمتع جميع المواطنينباختلاف معتقداتهمبحقوقهم المشروعة سبيل لتكريس حالة من الوئام والتعاون الخلَّاق والسلم الأهلي المجتمعي.

  1. اشراك الجميع في الحياة السياسية

إن إشراك جميع مكونات المجتمع بالحياة السياسية يعد أمراً إيجابياً لترسيخ حالة السلم المجتمعي، وفي حال تم حجب مكون ما عن الشراكة في الحياة السياسية فإنه سيكون مدعاة لغياب السلم المجتمعي، فحجب مكون من مكونات المجتمع عن الحياة السياسية لسبب لا يتفق مع الشرع يوغل في نفس الممنوع من ممارسة حقه السياسي الشر اتجاه من حرمه ممارسة حقه، وذلك قد يقوده نحو استخدام أساليب عنفية بغية الوصول إلى ما يعتبره حقه المسلوب، وستتأثر الحياة العامة للمجتمع بأسره.

فعندما يتاح لجميع مكونات الشعب ممارسة حقوقها السياسية من ترشح وانتخاب وتشكيل أحزاب سياسية وتقلد الوظائف العامة، فهذا مدعاة لأن يشعر المواطن بأنه جزء أصيل من هذا المجتمع، فيعلن ولائه للدولة والنظام العام، ويصبح حريصاً على خلق حالة من الاستقرار داخل المجتمع.

إن حالة الولاء للدولة والنظام العام فيها هو وليد لشعور الإنسان بنيل كافة حقوقه، وصون كرامته، أما فيما لو تم الاعتداء على هذه الحقوق فيصبح إعلان الولاء لهذا النظام من الصعوبة بمكان، ويذكر الفنجري أن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي إذا ما نالوا حقوقهم، فمن المفترض أن يعلنوا الولاء للدولة، واعتبر أن إعلان ولائهم لا ينشأ إلا بنيل حقوقهم وشعورهم بالمساواة والأمن، فذكر: “يمكننا أن نقول بحزم أنه ليس من المفروض أن يكون هناك عدم ولاء من الأقليات غير المسلمة في الدولة الإسلامية؛ لأن عدم الولاء لا ينشأ إلا عند الشعور بعدم المساواة، أو فقدان العدل والأمان، أو ضياع بعض الحقوق، وهذا غير موجود في ظل الإسلام(24).

ولقد أثبت لنا الواقع المعاصر أن الدولة إذا ما كانت شمولية وقمعية وتعتدي على الشعب وتسلبه حقوقه، فإن الهدوء الذي تنتجه جراء هذا القمع هو هدوء يضمر تحته نار مشعلة سرعان ما تنفجر ويذهب ضحيتها الشعب وسلمه وأمنه، ولنا خير مثال على ذلك ثورات الربيع العربي التي ثار فيها الشعب على الأنظمة القمعية، فالاستقرار السياسي والأمني لا يأتي بالسوط والقهر والقمع، وإن حدث استقرار وأمن بهذا الأسلوب، فهو استقرار وهمي يضمر تحته ناراً مشتعلة جاهزة للحرق والاشتعال.

  1. إعمال القيم الإنسانية:

تعرف القيم الإنسانية بأنها: “المبادئ الإنسانية التي جاءت بها كل الأديان، وركزت عليها جميع الحضارات، وأجمع عليها المفكرين والفلاسفة، واكدها العقل البشري وأيدتها الفطرة البشرية الصحيحة(25)

إن إعمال القيم الإنسانية تعد أحد أعمدة السلم المجتمعي، فعندما تنتشر القيم الإنسانية بين أفراد المجتمع ومكوناته؛ فإنها ستخلق ثقافة عامة بينهم تقود نحو نشر المحبة والتعاون والتكافل داخل المجتمع، فتعمل على ترسيخ الاحترام والتفاهم والتعاون بين أفراد المجتمع، وتقلل من البغضاء الشحناء والكراهية بينهم، فتقود الإنسان إلى معاملة أخيه الإنسان دون أن يكون اختلاف اللغة أو اللون أو الجنس أو العرق، سبباً للتميز واحتقار الآخر.

ومن جملة القيم الإنسانية التي تساعد على إيجاد حالة من السلم والأمن المجتمعي: الصدق، التسامح، الاحترام، العدل، الأمانة وعدم الغش، الإيثار، مساعدة الغير، فهذه بعض القيم الإنسانية التي من شأنها تقوية أواصر المحبة بين أفراد المجتمع.

إن أغلب المجتمعات التي تعاني من غياب السلم المجتمعي هي بالضرورة تعاني من غياب للمنظومة القيمية الإنسانية، وإعمال هذه المنظومة القيمية أداة لنشر ثقافة المحبة والتسامح والسلم الأهلي، وغيابها يعني أن لا فرق بين مجتمع الغاب الحيواني والمجتمع الإنساني، وعليه يجب على المجتمعات المسلمة الاهتمام بالقيم الإنسانية وغرسها في الأجيال وتربيتهم عليها، وهذه المهمة تشترك فيها جهات عدة، إبتداءً من الأسرة إلى المدرسة والمسجد، حتى تصبح الثقافة المجتمعية منسجمة مع القيم والمبادئ الإنسانية.

  1. القضاء على السلطة المطلقة

إن الناظر إلى التوجيه القرآني فيما يخص التفرد والاستبداد في الحكم، يجد بأدنى تأمل أنه حاربه ونهى عنه، ويظهر ذلك جلياً من خلال تقعيده لمبدأ الشورى، فقال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ(26) وقال أيضاً:وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ(27)، كما أفرد الله تعالى سورة كاملة باسم الشورى، وهو تأكيد وإظهار لأهمية هذا المبدأ، وهذا المبدأ القويم من شأنه أن يؤسس لحالة من الحكم الرشيد الصالح، الخالي من الاستبداد والفساد.

ولقد ظهرت أهمية الشورى من خلال السنة النبوية وصنيع النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وبدا من خلالها أن منهج الحكم يقوم على مبدأ الشورى، ومارسها النبي عليه الصلاة والسلام ممارسة عملية، وانتهج الخلفاء الراشدون هذا المبدأ.

إن سقوط الدول الإسلامية وصعودها عبر التاريخ الإسلامي له علاقة وطيدة بطبيعة الحكم من عدل وشورى ومساواة، وقد أعد د. عبد الحليم عويس دراسة عن أسباب سقوط ثلاثين دولة إسلامية، ويظهر من الدراسة أن أحد عوامل السقوط لبعض هذه الدول، هو التفرد بالسلطة والحكم، وقيامها على رجل واحد(28).

إن تفرد شخص واحد بمقاليد السلطات داخل المجتمع تقوده نحو التجبر والقمع، وبالتالي استبداده، فالعقل البشري قد يصل لمرحلة عمل أي شيء في مقابل البقاء في السلطة، حتى ولو كان على حساب حريات الشعب وحقوقه، كل ذلك من أجل تكريس سلطته المطلقة، يقول الغزالي: “إنَّ للسلطة المطلقة إغواء يؤسس لمالكها بالتجبر(29).

فالنفس البشرية قد تقود صاحبها نحو التجبر والاستبداد إذا ما كان في موقع الحكم، والطريق نحو هذا الأمر هو الحكم الفردي الشمولي المطلق، يتحدث ابن خلدون في مقدمته واصفاً حقيقة الملك والحكم: “لما كانت حقيقة المك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية؛ كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة مجحفة بمن تحته من الخلق في أحوال دنياهم؛ لحمله إياهم في الغلاب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته(30).

إن الحكم الفردي المطلق سيخلق جواً عاماً من الحقد والكراهية تجاه النظام الحاكم من قبل الشعب؛ كون المتنفذ في مفاصل الدولة قلة تضطهد من يعارضها ولا يسبح بحمدها، بالإضافة إلى أن النظام الاستبدادي عادة ما يرافقه غياب للعدل وتكافؤ الفرص، وانتشار للواسطة، وهذه الحالة كفيلة بخلق جو عام من الكراهية وانعدام لحالة السلم في المجتمع، وفي أي لحظة من الممكن أن يثور الشعب على من استبد به.

إن ما سبق ما هو إلا محاولة من الباحث تسليط الضوء على بعض مقومات وعوامل تساعد على إيجاد حالة من السلم والأمن المجتمعي في المجتمع المسلم، التي غابت عن كثير من مجتمعاتنا الإسلامية في زماننا، وهي في مجملها عوامل مرتبطة بالحقوق السياسية والحريات، ولا يعني ذكر هذه العوامل أن توفرها يوفر حالة السلم والأمن والمجتمعي، إنما هي ركيزة أساسية من ركائز الأمن والسلم المجتمعي، يضاف إليها ويلاصقها العدالة الاجتماعية، والتكافل الاقتصادي، وتهيئة وتوفير سبل العيش الكريم.

المبحث الثالث: آثار السلم المجتمعي على المجتمع الإسلامي

إنَّ السلم الاجتماعي أداة رافعة للأمة وطريق موصل نحو التطور والبناء والتخلص من كل المعوقات الاجتماعية نحو النهوض والإبداع، فالسلم والأمن نعمة من نعم الله تعالى لها أسباب لاستحقاقها من الله تعالى، ولها مسوغات لرفعها من قبل الله تعالى، واستحقاقها أو رفعة نتاج ما صنعت يد الإنسان، يقول تعالى :وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(31).

الاستقرار والأمن المجتمعي هو مطلب شرعي أساسي، وله علاقة وطيدة بالتقدم والتطور، فهو حاجة أساسية لتقدم المجتمعات، وبدونه تتعثر عجلة التقدم والازدهار، تقول جيهان عبد الحليم: “فالحاجة إلى الأمن حاجة أساسية؛ لاستمرار الحياة وديمومتها وعمران الأرض التي استخلف الله تعالى عليها بني آدم، وانعدام الأمن يؤدي إلى القلق والخوف ويحول دون الاستقرار والبناء، ويدعو إلى الهجرة والتشرد، وتوقف أسباب الرزق، مما يقود إلى انهيار المجتمعات ومقومات وجودها(32)“.

إن المجتمعات التي يغيب عنها السلم المجتمعي بعيدة كل البعد عن التطور والازدهار، والنهوض الحضاري له أسبابه التي يجب إعمالها، وإيجاد حالة من السلم داخل المجتمع أحد أعمدة هذا النهوض، فكيف لمجتمع يغيب عنه الأمن والاستقرار أن ينهض حضارياً؟ فهذه الحالة قاتله للشهود الحضاري.

إن عجلة النمو والإنتاج تحتاج إلى استقرار داخل المجتمع حتى تسير بخط واضح المعالم يؤتي أكله، وفي حال غياب هذا الاستقرار فالنتيجة حتمية نحو الركود والتخلف والانشغال بالنفس.

فالمجتمع الذي يعاني من غياب السلم الأهلي يكون فريسة سهلة للطامعين والحاقدين من الجهات الخارجية، فتستغل هذه الانظمة الخارجية هذه الحالة لإبقاء حالة عدم الاستقرار داخل المجتمع، بالإضافة لاستغلالها جهات داخلية لتمرير سياساتها، كما أنها تحاول جاهدة تغذية الاحتقان الاجتماعي الداخلي لينفجر فيما بعد على شكل صراعات داخلية تعبث هذه الانظمة بالدولة من خلاله.

إن غياب السلم الأهلي داخل المجتمع الإسلامي يولد شعوراً بالمظلومية عند مكون من مكونات المجتمع، وهذا الشعور قد يتطور ليتحول إلى ممارسة عنفية عمليه تجاه من أوقع الظلم. إن هذا الجو لهو جو خصب نحو وجود فكر متطرف يمقت كل من سلبه حقه، وقد يتطور ليكون تياراً منظماً ينتهج العمل العنفي للتفريغ عن غضبه ومقته، وبالنهاية يكون ذلك على حساب السلم المجتمعي.

وأخيراً فإن السلم المجتمعي هو نتاج عمل بشري، يتأتى إذا ما أحسن المجتمع بكل مكوناته ونظامه التعامل على أساس الكرامة الإنسانية وحفظ الحقوق، وعند تهميش أو اضطهاد طرف من المجتمع على حساب الآخر، فعندها سينهدم الجدار الحامي للسلم المجتمعي نتيجة هذا التصرف البشري اللامسؤول، والسلم المجتمعي أداة لرفعة الأمم وتطورها، فكل مكونات الشعب تقدم كل ما لديها من إمكانيات وطاقات نحو البلد الذي تنتمي إليه، فشعور الإنسان بالمساواة مع بقية مكونات الشعب يجعله يعطي أكثر ما يستطيع.

الخاتمة

بعد الانتهاء من هذه الدراسة، والتي تعد محاولة لتسليط الضوء على بعض مقومات إيجاد وترسيخ حالة من السلم المجتمعي داخل المجتمع لمسلم، ومع الإقرار بأن موضوع السلم والأمن المجتمعي بحاجة إلى مزيد اهتمام وبحث، خصوصاً مع ما تمر به مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، فإنه يمكن إجمال ما توصلت إليه الدراسة بالآتي:

أولاً: السلم المجتمعي يعني إيجاد حالة من الاطمئنان والارتياح والثقة والأمن والتعاون والتكافل داخل المجتمع، وتأمين الحاجات الضرورية للإنسان، وهو حاجة ضرورية ملحة للإنسان.

ثانياً: ضمان الحقوق السياسية والحريات العامة، تعد من أهم عوامل ترسيخ الأمن والسلم المجتمعي.

ثالثاً: من مقومات السلم المجتمعي: فهم سنة الاختلاف، ضمان الحريات والحقوق لجميع مكونات المجتمع، واشراك الجميع في الحياة السياسية، وإعمال القيم الانسانية، والقضاء على السلطة المطلقة.

رابعاً: السلم المجتمعي يُعد عاملاً من عوامل النهوض الحضاري والتقدم والتطور والازدهار، وغيابه يعد عاملاً للتناحر والتخلف والظلم، عدا عن كونه مدعاة للتدخل الخارجي للعبث بالأمن الداخلي للبلاد، فالعلاقة بين السلم المجتمعي والنهوض الحضاري علاقة طردية.

التوصيات

مع غياب الأمن والسلم في أغلب المجتمعات الإسلامية في زماننا المعاصر، توصي الدراسة المراكز والمؤسسات البحثية والأكاديمية عقد ندوات وورشات للبحث في مقومات وعوامل إيجاد حالة من السلم والأمن في هذه المجتمعات، يدعى لها أهل الاختصاص من الحقول المختلفة من: شريعة، وعلم اجتماع، وقانون، واقتصاد، وبلورة وثيقة بهذا الصدد، ومن ثم تقديمها إلى الجهات الحاكمة في البلاد الإسلامية، إبراء إلى الله تعالى، وتقديم أقل ما يمكن إزاء هذه الحالة من عدم السلم والأمن.

المصادر والمراجع

  • ابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الرازي، 1419هـ، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، ط.3، تحقيق: أسعد محمد الطيب، السعودية، مكتبة نزار مصطفى الباز.
  • ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد،2013م، مقدمة ابن خلدون، ط.2، بيروت: مكتبة المعارف.
  • ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري، 1999م، تفسير القرآن العظيم، ط.2، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة.
  • أحمد، أمل، 2019م، القيم الإنسانية هي التي تعطي لحياة الإنسان معنى، تاريخ النشر: 14/3/2019م، موقع بحوث الإلكتروني. https://bo7ooth.info/2019/03/14
  • أماره، صايل أحمد حسن، 2014م، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي، المجلة الدولية للبحوث الإسلامية والإنسانية المتقدمة، المجلد4، العدد: 6، تاريخ النشر: 1/6/2014م.
  • بوزيان، عليان، 2011م، مقصد حفظ نظام الأمة مقاربة مقاصدية، مجلة المسلم المعاصر.
  • ريان، صبحي، 2012م، دور الاختلاف في تحقيق السلم الاجتماعي، بحث مقدم لمؤتمر السلم الاجتماعي من منظور إسلامي، فلسطين: جامعة النجاح الوطنية
  • الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، 2001م، تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ط.1، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر.
  • عبد الحليم، جيهان الطاهر محمد، 2012م، التأصيل الشرعي للأمن الاجتماعي في القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي، الملتقى الفقهي، ص2، تاريخ النشر: 2/ 8/ 2012م http://fiqh.islammessage.com/NewsDetails.aspx?id=5176
  • عمارة، محمد، 2007، مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام، بحث مقدم إلى مؤتمر الأمن الاجتماعي المنعقد بالبحرين، 2007م.
  • عمر، محمد عبد الحليم،2008م، الزكاة ودورها في تحقيق الأمن المجتمعي، ورقة مشاركة في مؤتمر مقومات الأمن المجتمعي في الإسلام المنعقد في مصر.
  • عويس، عبد الحليم، 2010م دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، مصر: مؤسسة إقرأ.
  • الغزالي، محمد، 2003م، الإسلام والاستبداد السياسي، ط.1، دمشق: دار القلم.
  • الفنجري، أحمد شوقي، 1990م، كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية؟، د.ط، الإسكندرية: الهيئة العربية العامة للكتاب.
  • القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأمصاري الخزرجي، 2003م، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: سمير البخاري، الرياض: دار عالم الكتاب.
  • نايف، مي عمر، 2012م، لغة الحوار وأثرها على السلم الاجتماعي، بحث مقدم لمؤتمر السلم الاجتماعي من منظور إسلامي، فلسطين: جامعة النجاح الوطنية.

1) أماره، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي، المجلد4، العدد: 6، ص38-ص70.

2) نايف، لغة الحوار وأثرها على السلم الاجتماعي، ص68- ص94

3) ريان، دور الاختلاف في تحقيق السلم الاجتماعي، ص122- ص148

4) عمارة، مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام.

5) عمارة، مقومات الأمن الاجتماعي في الإسلام، ص7.

6) عمر، الزكاة ودورها في تحقيق الأمن المجتمعي، ص5-ص6.

7) القرآن الكريم، سورة البقرة، 2: 126.

8) القرآن الكريم، سورة البقرة: 2: 155.

9) عمر، الزكاة ودورها في تحقيق الأمن المجتمعي، ص6.

10) عبد الحليم، التأصيل الشرعي للأمن الاجتماعي في القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي، ص2.

11) المرجع السابق، ص1.

12) القرآن الكريم، سورة النحل، 16: 112.

13) القرآن الكريم، سورة هود، 11: 118و 119.

14) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4: ص362. ابن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، ج6: ص2093. الطبري، تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج12: ص632.

15) القرآن الكريم، سورة الحجرات، 49: 13.

16) القرآن الكريم، سورة الكهف، 18: 7.

17) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10: ص354.

18) القرآن الكريم، سورة الممتحنة، 60: 8.

19) أماره، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي، المجلد4، العدد: 6، ص65.

20) بوزيان، مقصد حفظ نظام الأمة مقاربة مقاصدية، العدد: 140.

21) المرجع السابق.

22) أمارة، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي، المجلد4، العدد: 6، ص65.

23)أمارة، ضمان حقوق الأقليات وأثره على السلم الاجتماعي، المجلد4، العدد: 6، ص49 .

24) الفنجري، كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية، ص89.

25) أحمد، القيم الإنسانية هي التي تعطي لحياة الإنسان معنى.

26) القرآن الكريم، سورة آل عمران، 3: 159.

27) القرآن الكريم، سورة الشورى، 42: 38.

28) للاستزادة حول هذا الموضوع أنظر: عويس، دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية.

29) الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي، ص68.

30) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص210.

31) القرآن الكريم، سورة النحل، 16: 112.

32)عبد الحليم، التأصيل الشرعي للأمن الاجتماعي في القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي، ص1.