مجلة العلوم الإسلامية

الاجتهاد والتقليد في “تيسير التفسير” للشيخ امحمد بن يوسف أطفيش

Diligence and tradition in the “facilitation of interpretation” of Sheikh Mohammed bin Yusuf Tfayyesh

Hilal Khalfan Mohammed Al- Battashi

College of Shari’a Sciences || Muscat || Sultanate of Oman

DOI PDF

Tab title
This study sheds light on the approach of the scholar Amahd ibn Yusuf al- Atfish in ijtihad and tradition, through his interpretation of the Holy Quran, which he called “facilitating interpretation.” The study was based on scientific methods, namely the inductive method and the deductive approach. , And graduation conversations, and so on. The study concluded that Sheikh Aftish had opinions and applications related to diligence and tradition. He dealt with many issues related to the process of ijtihad, and he had corrections and calamities, not only what he quoted from the scholars, but was correct and likely and cite and cite. The study has recommended. The study recommended that researchers in the fundamentals of jurisprudence should research the jurisprudence of Ibadi jurisprudence, extract the fundamental issues, collect the scattered ones, study them in depth, and show the curricula of fundamentalist scholars who do not have independent fundamentalist books. Keywords: Ijtihad. Imitation, hardworking, imitator, etfish.
Tab title
This study sheds light on the approach of the scholar Amahd ibn Yusuf al- Atfish in ijtihad and tradition, through his interpretation of the Holy Quran, which he called “facilitating interpretation.” The study was based on scientific methods, namely the inductive method and the deductive approach. , And graduation conversations, and so on. The study concluded that Sheikh Aftish had opinions and applications related to diligence and tradition. He dealt with many issues related to the process of ijtihad, and he had corrections and calamities, not only what he quoted from the scholars, but was correct and likely and cite and cite. The study has recommended. The study recommended that researchers in the fundamentals of jurisprudence should research the jurisprudence of Ibadi jurisprudence, extract the fundamental issues, collect the scattered ones, study them in depth, and show the curricula of fundamentalist scholars who do not have independent fundamentalist books. Keywords: Ijtihad. Imitation, hardworking, imitator, etfish.

الاجتهاد والتقليد في تيسير التفسيرللشيخ امحمد بن يوسف أطفيش

هلال بن خلفان بن محمد البطاشي

كلية العلوم الشرعية || مسقط || سلطنة عُمان

Tab title
تسلط هذه الدراسة الضوء على منهج العلامة امحمد بن يوسف أَطْفَيَّش في الاجتهاد والتقليد، وذلك من خلال تفسيره للقرآن الكريم الذي سمّاه “تيسير التفسير”، وكانت الدراسة قائمة على مناهج علميّة تتمثل في المنهج الاستقرائي، والمنهج الاستنباطي، مع ما يقتضيه البحث العلمي من عزو الآيات، وتخريج الأحاديث، وغير ذلك. وقد توصلت الدراسة إلى أن الشيخ أطفيش في “تيسير التفسير” لم يتوسع في مسائل الاجتهاد والتقليد مقارنة بالمسائل الأصولية الأخرى، وأنَّ تناوُلَه لمسائل الاجتهاد والتقليد منطلِق من تفسير الآيات القرآنية الكريمة، وأنَّ الشيخ أطفيش أفصح عن آرائه في كثر من الأحيان التي عرض فيها مسائل الاجتهاد والتقليد. وقد أوصت الدراسة الباحثين في أصول الفقه بضرورة البحث في الموسوعات الفقهيّة الإباضية، واستخراج المسائل الأصوليّة، وجمع ما تناثر منها، ودراستها دراسة مُعمّقة، وبيان مناهج العلماء الأصوليين الذين ليس لهم كتب أصوليّة مستقلّة. الكلمات المفتاحية: الاجتهاد. التقليد، المجتهد، المقلّد، أطفيش.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين

أما بعد:

فإنّ استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلتها يقوم به من كان قادرا على استفراغ جهدهبما تحصّل عليه من أدوات مُعِيْنةللنظر في الأدلة الشرعيّة وفهمها واستنباط الحكم منها، وذلك هو الاجتهاد. وقد ذكر العلماء للاجتهاد شروطا إذا توافرت في المرء كان مؤهّلا للقيام به، وإذا لم تتوافر فيه فإنَّ حقّه التقليد لمن كان مجتهدا. وفي هذا وذاك ناقش العلماء العديد من المسائل ولا تخلو من الاختلاف، وأردتُ في هذا البحث أن أتناول مسائل الاجتهاد والتقليد وفق منهج الإمام امحمد بن يوسف أطفيش من خلال تفسيره الذي سمّاه تيسير التفسيرالذي يقع في ستة عشر جزءًا حسب طبعة وزارة التراث العُمانيّة.

مشكلة البحث:

موضوع الاجتهاد والتقليد واحد من الأمور التي يثيرها كثير من غير المتخصصين في الشريعة الإسلامية، داعين إلى التحرر من تبعية الفقيه المجتهد، ومنكرين على التراث الفقهي فكرة التقليد فإنَّ كل مكلّف قادر على النظر في الأدلة بنفسه دون وصاية من المجتهد، ويأتي هذا البحث ليؤكّد نظرية الاجتهاد والتقليد في الفقه الإسلامي من خلال النظر في الأدلة القرآنية وفق منهج الشيخ أطفيش ¬، وذلك من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:

  1. ما المسائل المتعلقة بالاجتهاد والتقليد التي بحثها الشيخ أطفيش في تفسيره؟
  2. وما المنهج الأصولي الذي يتَّبعه في ذلك؟
  3. وكيف يُؤصِّل الشيخ أطفيش لمنهجه الاجتهادي من خلال تفسيره للقرآن الكريم؟
  4. ثمَّ كيف يفرّع المسائل بناء على ذلكم التأصيل أثناء تفسيره للقرآن الكريم؟

أهداف البحث:

للدراسة أهداف يمكن حصرها فيما يلي:

  1. إظهار منهج الشيخ أطفيش الاجتهادي فيما يتعلَّق بالاجتهاد والتقليد.
  2. ربط التأصيل بالتطبيق فيما يخص الاجتهاد والتقليد من خلال النظر في التطبيقات التي تعرَّض الشيخ أطفيش لبيانها خلال تفسيره للقرآن الكريم.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث فيما يلي:

  1. أنّ دراسة منهج الاجتهاد والتقليد للشيخ أطفيش تجلّي سمات الاجتهاد لدى واحد من فقهاء الإباضية، وتكشف عن منهجه في تناول المسائل.
  2. أن الدراسةوهي تُظهر منهج الشيخ أطفيشفي الاجتهاد والتقليدتبيّن الملامح العامة لمنهج الاجتهاد عند الإباضية.

الدراسات السابقة:

هنالك بحوث تناولت تراث الشيخ أطفيش ودرسته من نواحٍ عديدة لم يكن منها –حسب الاطلاعدراسةٌ تعنى بالبحث عن منهجه في الاجتهاد والتقليد لا سيما من خلال تفسيره للقرآن الكريم الموسوم بـ تيسير التفسير“.

على أنه توجد دراسات سابقة عديدة في موضوع الاجتهاد والتقليد لدى علماء آخرين، ومنها:

  1. منهج الاجتهاد عن الإباضية، وهي عبارة عن أطروحة دكتوراه للباحث مصطفى باجو، وهي دراسة عامة تشمل أبواب أصول الفقه بما في ذلك الاجتهاد والتقليد، وتناولت كل ذلك من خلال النظر في التراث الإباضي، بينما اقتصرت هذه الدراسة على منهج الشيخ أطفيش الإباضي في مسائل الاجتهاد والتقليد، بل إنها لم تستوعب تراثه كله وإنما اقتصرت على كتابه تيسير التفسير.
  2. الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشاطبي، وهي عبارة عن رسالة ماجستير تقدّم بها الباحث وليد بن فهد الودعان في جامعة الإمام محمد بن سعود، وهي مع نفاستها قصرت البحث على الإمام الشاطبي، وهذه الدراسة تقصر البحث على الشيخ أطفيش.
  3. الفكر السياسي عند الإباضية من خلال آراء الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، للباحث عدون جهلان، وهي دراسة لا علاقة لها بالاجتهاد والتقليد وبذلك هي تختلف عن هذه الدراسة.

منهجية البحث:

تقوم هذه الدراسة على منهج استقراء الجزئيات المتوزّعة في تيسير التفسيرثم على منهج الاستنباط من خلال النظر في التطبيقات المتوفّرة لإعطاء صورة واضحة عن رأي الشيخ أطفيش ومنهجه. وذلك مع ما يقتضيه البحث العلمي من التوثيق وعزو الآيات وتخريج الأحاديث وغير ذلك.

خطة البحث:

جعلت البحث في مقدمة، وتمهيد، ومبحثين، وخاتمة، وفق الآتي:

  • مقدمة: وتحدثت فيها عن أهمية البحث وأهدافه ومشكلته والدراسات السابقة ومنهجية وخطته.
  • تمهيد: وترجمتُ فيه بإيجاز للشيخ أطفيش.
  • المبحث الأول: وتحدثت فيه عن الاجتهاد في مطلبين: الأول: في تعريفه ومشروعيّته، والثاني: في بعض أحكامه. وتحت كل منهما مقاصد وفروع.
  • المبحث الثاني: وتحدثت فيه عن التقليد في مطلبين: الأول: في حقيقته، والثاني: في مجاله وحُكمه.
  • الخاتمة: وفيها عرضتُ أبرز النتائج والتوصيات.

والله ولي التوفيق،،،

تمهيد في ترجمة الشيخ أطفيش

الشيخ أطفيش امحَمَّد بن يوسف بن عيسى ابن صالح بن عبد الرحمن بن عيسى ابن إسماعيل بن محَمَّد بن عبد العزيز بن بكير الحفصي، أطفيش(1). وقد اشتهر تلقيبه بـ «قطب الأئمة» ويُختصر أحيانا فيقال: «القطب»(2).

وكانت ولادته في غردايةمن وادي ميزاببالجزائر كما نصّت على ذلك بعض المصادر(3)، وذكر تلميذه أبو إسحاق أطفيش أنه ولد بوادي يسجن من ميزاب(4). وقد اختلفت المصادر في تاريخ مولد القطب، فقيل: عام 1236هـ(5)، وقيل: عام 1237ه(6)، وقيل: عام 1238ه(7)، وذهب بعضهم ترجيح ولادته في عام 1243ه/1827و1828م(8).

وقد توفي الشيخ أطفيش عن عمر يناهز تسعا وثمانين سنة، وقيل: توفي وهو يناهز ستا وتسعين سنة(9)، وذلك يوم السبت بتاريخ 23 ربيع الثاني سنة 1332هـ الموافق لشهر مارس سنة 1914م، وكانت وفاتهفيما تذكر بعض المصادربسبب سمّ وضع له في حذائه من قبل أحد عملاء الاستعمار الفرنسي ليُتوفى بعده بأسبوع(10).

وكان الشيخ أطفيش نشأيوم نشأيتيما فقد توفي والده وهو في الرابعة من عمره، واعتنت به أمّه ودفعته إلى من يقوم بتحفيظه القرآن الكريم حتى حفظه وهو ابن ثماني سنين. وقد تتلمذ أول ما تتلمذ على أخيه الأكبر إبراهيم بن يوسف أطفيش فدرس على يديه مفاتيح العلوم كلها فيما تذكر بعض المصادر(11). كما تتلمذ على عدد من المشايخ الذين تتلمذوا على يد العلامة الثميني(12).

وقد تبوّأ الشيخ أطفيش مكانة عظيمة بين أتباع المذهب الإباضيّ فقد كان من أكابر مراجعهم الذين جدّدوا المذهب بتحقيقاتهم واجتهاداتهم العلميّة، فعرف قدره العلماء(13)، وسلاطين عُمان وزنجبار والدولة العثمانية(14).

وكان له تلاميذ من أماكن شتى وأقطار متفرّقة، كان لهم دورهم الرياديفيما بعدفي مجالات الحياة المختلفة(15). يقول أبو إسحاق أطفيش: «تبرَّز عنه العلماء الفطاحل أخص من بينهم ذلك السري الفخيم سليمان باشا الباروني»(16).

وقد ألّف الشيخ أطفيش عددا كبيرا من الكتب والمؤلفات يذكر تلميذه أبو إسحاق أنّ «تآليفه تجاوزت ثلاثمائة مصنف بين كبير وصغير»(17)، ويذكر (وينتن) أنّ «أوفر قائمة وجدناها هي القائمة التي أثبتها المستشرق (كوبرلي) وفيها ثلاثة عناوين ومائة عنوان»(18). وكانت كتبه في مجالات شتى؛ كالبلاغة والأصول والتفسير والتجويد والتوحيد والتاريخ والجبر والحديث والحساب والرسم والسِّيَر والطب والصرف والعروض والقافية والفقه والفلك والفلاحة والفرائض والفلسفة واللغة ومصطلح الحديث والمنطق والنحو والوعظ (19). ومن أشهر كتبه المطبوعة: تيسير التفسير، وهميان الزاد، وشرح النيل، ووفاء الضمانة، وشامل الأصل والفرع، والذهب الخالص(20).

المبحث الأول: الاجتهاد

المطلب الأول: تعريف الاجتهاد ومشروعيّته

المقصد الأول: تعريف الاجتهاد:

الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والمجهود(21)، وفي الاصطلاح: «استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية»(22).

وبينه وبين القياس عموم وخصوص، فالقياس إنما هو من عمل المجتهد، يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «وأباحت الآية حكم المجتهد بالقياس أو نحوه»(23)، وقد يرد القياس مقرونا بالاجتهاد كما في قوله: «فالدين في نفسه كامل بنصوصه وما يستنبط منه بالاجتهاد والقياس…»(24)، وقوله أيضا: «وكثُر اجتهاد الصحابة وقياسهم»(25). وتارة يَستدلُّ على مشروعيّة كلٍّ من الاجتهاد والقياس بدليلٍ واحد، كقوله: «…فالآية دليل للاجتهاد والقياس لا إِبطال لهما كما زعم مَن زعم»(26)، وكذلك أيضا: «وأمرصلى الله عليه وسلممعاذ بن جبل- رضي الله عنهأن يعمل باجتهاده وقياسه فيما لم يحفظ فيه عنه شيئًا حين أرسله إلى اليمن»(27).

وقد يطلق الشيخ أَطْفَيَّش مصطلح «الاستنباط» في معنى الاجتهاد، فنصَّ مثلا على «أَن القرآن محل الاستنباط، وقد خرَّج بعضهم عمرهصلى الله عليه وسلمثلاثا وستين سنة من قوله تعالى: ﴿ولن يؤخر الله نفسا في سورة هي رأَس ثلاث وستين سورة»(28). وورد «الاستنباط» في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [سورة النساء: 83]، «وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو أول ماء البئر وسمي قوم في البطائح بين العراقين نبطا، لأنهم يستخرجون المياه من الأرض»(29)، وقد نبّه الشيخ أَطْفَيَّش إلى أنّه «لا يلزم أن يكون الاستنباط والاعتبار اجتهادًا»(30).

والذي يقوم باستفراغ الوسع هو المجتهد ويُسمّى الفقيه، من (فقه)، وهي مادّةكما يقول الشيخ أَطْفَيَّش– «لما يُحْتَاج إلى تدقيق نظر وللشق والفتح، والفقيه من يشق الأَحكام ويفتش عن حقائقها ويفتح ما استغلق من ذلك، إِن علم الشريعة سمي فقها لاحتياجه إلى تدقيق النظر للاستنباطوقيل: العلم والفقه بمعنيوقيل: الفقه دون العلم»(31).

فالمجتهدإذنهو الفقيه، ولذلك عرّف ابن مفلح الاجتهاد بأنه «استفراغ الفقيه وسعه لدَرْك حكم شرعي»(32)، وهكذا جاء في تعريف السالمي: «أن يطلب الفقيه حصول حكم حادثة بشرع، ويبذل في ذلك مجهوده بحيث لا يمكنه المزيد عليه في الطلب»(33).

ولكن قد يُطلق الفقيه توسُّعًا على من يحفظ الفروع الفقية ولمّا يصل إلى درجة الاجتهاد، «وكان لفظ الفقيه والمجتهد مترادفين في العصور الأولى، ثم انفصلا، وصار الفقيه هو المجتهد عند الأصوليين، والعالم بالفقه هو الفقيه عند الفقهاء»(34).

المقصد الثاني: مشروعية الاجتهاد:

دلَّل الشيخ أَطْفَيَّش على مشروعيّة الاجتهاد بعدد من الأدلة، وتوقَّف مع الأدلة التي قد يُفهم منها تحريم الاجتهاد كنحو الآيات التي تحرِّم التقوّل على الله، والآيات التي فيها ذم اتّباع الظنّ وغير ذلك.

  1. فمن الأدلة التي استدلّ بها الشيخ أَطْفَيَّش على مشروعيّة الاجتهاد قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [سورة الإسراء: 36]، وعَدَّ ما يتوصّل إليه المجتهد علمًا لا يدخل في النهي، يقول: «وأباحت الآية حكم المجتهد بالقياس أو نحوه، لأن ما أداه إليه اجتهاده علم ولو كان ظنيًّا، لأن العلم في الأمور الشرعياتودخل فيها الحكم بين الناس وسائر التحليل والتحريمليس بمعنى اليقين»(35).
  2. ثمّ راح بعد ذلك يستدلّ على أنّ الظنَّ الحاصل من اجتهاد المجتهد ليس مذموما، وساق عددا من الأدلة والشواهد على اعتبار الشرع للظنّ في مسائل لخّصها الشيخ أَطْفَيَّش في قوله: «ألا ترى أن المجتهد يخطئ ويصيب، ولا يعاقب على خطئه، ألا ترى أنا نحكم بشهادة الأمناء وشهادة من يدعي الإسلام ولم نر فيه كبيرة، وبشهادة العامة بدون أن نراها فيهم، وذلك كله ظن لا يقين، ألا ترى قوله تعالى: ﴿فامتحنوهن﴾ وكفى الاختبار ﴿الله أعلم بإيمانهن﴾، وأن الله رد الأمر إلى الظاهر حتى سمي من لم يأت بشهادة الزنى كاذبًا ولو كان صادقًا عند الله، ولو شهدوا بزور، ولم نعلم بهم حكمنا بهم، ومن ذلك حل ذبائح والنكاح ونحو ذلك مما يشترط فيه التوحيد، مع أنا لا ندري ما الباطنقال ابن عباسرضي الله عنه-: لا تشهد إلا بما رأته عينك، وسمعته أذنك، ووعاه قلبك، وليس في ذلك شيء من اليقين، قالصلى الله عليه وسلم-: ((من قَفَا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردَغة الخبال حتى يأتي بالمخرج))… والمراد بما ليس فيه بحسب الظاهر، ولو كان فيه عند الله»(36).

فالآيات التي تذمّ اتّباع الظنّ وتحرّمه كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [سورة الأنعام: 148] لا يدخل فيها الاجتهاد في الفروع ولو كان ناشئا عن ظنّ. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «والآية تحريم للظن فيما فيه قاطع، وذلك في جميع ما يؤخذ ديانة مما يقطع فيه العذر، ولا يسوغ فيه الخلاف، وإِذا لم يعارض قاطعٌ ظنيٌّ أو عقليٌ جاز الظن للمجتهد، أَعني أَنه يجتهد في بعض أَحكام الفروع»(37).

  1. ويذكر الشيخ أَطْفَيَّش أنّ تفويض النبيصلى الله عليه وسلمفي الاجتهاد يشمل بالقياس من يأتي بعده، وذلك أنّ الله تعالى فوّض نبيّه في الإذن لمن شاء ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: 62]. يقول في تفسير الآية: «وهذا تفويض في الاجتهاد، وهذا شامل بالقياس للمجتهد بعدهصلى الله عليه وسلم، لأن اختيار ما شاءهصلى الله عليه وسلم، أو شاءه المجتهد بعده قصد للصواب وتحر له، لا حظ له ولا تشه، فالنبيصلى الله عليه وسلمفُوِّض أن يجتهد فيمن يصلح أن يأذن له، ومن لا يصلح…»(38).
  2. ومن الأدلة كذلك على مشروعيّة الاجتهادفيما يذكر الشيخ أَطْفَيَّشقوله تعالى: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [سورة طه: 94]. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «وحاصل اعتذار هارون أنه رأى البقاء فيهم مع النهي، ومداراتهم والمحافظة على اجتماعهم، إلى أن يأتي موسى فيرى رأيه أصلح ولا سيما أنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ويجوز أن يراد بالقول في: ﴿ولم ترقب قولي﴾ قول هارون فيكون الخطاب في ترقب لموسى أي: لم ترقب يا موسى ما أقول لو قاتلهم أو لحقت بك من أن ذلك صلاح، أي: أن تقول غير مراقب قولي: فرَّقت بينهم، وفي ذلك دليل على جواز الاجتهاد»(39).
  3. وثَمَّ أدلة زعم بعضهمحسب تعبير الشيخ أَطْفَيَّشأنّها دليل على تحريم الاجتهاد، ولكنّه رأى فيها دلالة لإباحته عكس ما رأوه، وهي تتمثّل في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [سورة المائدة: 3]. ومما أتمّ الله به نعمته على عباده «تسهيل الاجتهاد بنحو القياس لكم، فالدين في نفسه كامل بنصوصه وما يستنبط منه بالاجتهاد والقياس، فالآية دليل للاجتهاد والقياس لا إِبطال لهما كما زعم من زعم»(40).
  4. أما قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 169] فلا يدل على تحريم الاجتهاد، وليس اجتهاد المجتهد من التقوّل على الله بغير علم، طالما أنّه قال ما قال قاصدا الحق لا اتباع هوى النفس. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «وليس قول المجتهد قولا بما لا يعلم، لأنه يقول استدلالا بما يستنبط من القرآن والسنة والإجماع، قصدًا للحق لا اتباعًا للهوى، وقد أباح الله له ذلك»(41).
  5. وقد استشهد الشيخ أَطْفَيَّش على مشروعيّة الاجتهاد أيضا بوقوعه من الصحابة، فقال: «وكثر اجتهاد الصحابة وقياسهم»(42).
  6. وبأنّ النبيصلى الله عليه وسلمحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن أمره «أن يعمل باجتهاده وقياسه فيما لم يحفظ فيه عنه شيئًا حين أرسله إلى اليمن»(43).
  7. «وأما قول عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله: احذورا هذا الرأي عن الدين، فإنه منا ظن وتكلف بخلاف رسول اللهصلى الله عليه وسلمفإن الله يريه، فإنما أرادا به التخويف عن الخطأ، بدليل أنهما قد استعملا رأيهما في مسائل باجتهاد، وليس التحذير منه إبطالا للعمل به»(44).

وبناءً على ما قرّره الشيخ أَطْفَيَّش من أنّ الاجتهاد مشروع؛ نجده يفسّر الآيات التي تدل على أنَّ كلّ شيء تم تفصيله وبيانه في القرآن الكريم بأنّ ذلك التبيين والتفصيل يكون باجتهاد العلماء إضافة إلى القرآن والسنة، ومن هنا يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ [سورة الإسراء: 12]: «﴿تَفْصِيلًا﴾ أي: بيناه تبيينا لا مزيد عليه بالقرآن أو السنة، أو اجتهاد العلماء، وذلك كقوله تعالى: ﴿ما فرَّطنا في الكتاب من شيء﴾ وقوله تعالى: ﴿ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾»(45).

هذا، والأصح عند الشيخ أَطْفَيَّش أنّ الاجتهاد من خصوصيَّات هذه الأمّة، وقد ذكر أنّ هذا هو المشهور. يقول: «والمشهور اختصاص هذه الأُمة المحمدية بالاجتهاد، وقيل به أَيضا لغيرهم، والأَول أَصح، اللهم إِلا إِن كان اجتهادهم بالقياس فيما يُعلم من الدين ويفهم منه فهما جليا كأَنه ضروري»(46). وقال في موضع آخر: «بل خصت هذه الأمة بالاجتهاد…»(47).

المقصد الثالثاجتهاد النبيصلى الله عليه وسلم:

اجتهاد النبيصلى الله عليه وسلماختلف الأصوليون في جوازه ووقوعه(48)، والشيخ أَطْفَيَّش تناول المسألة في مواضع مختلفة، ولم يذكر في بعضها رأيه مكتفيا بافتراض جوازه، وفي بعضها تعرّض لبعض الأدلة التي يُستدل بها على المنع، ولكنّه صرّح في مواضع أخرى بالصحيح عنده، وذكر لذلك بعض الأدلة.

  • فمن المواضع التي لم يَجزم فيها بشيء ما جاء عند تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [سورة الأعراف: 3]، فبيّن أنّ بما أنزل هو «القرآن وسائر الوحي، وسنته القولية والفعلية والتقريرية، واجتهاده إن قلنا به…»(49). وكذا افتَرَض جواز اجتهادهصلى الله عليه وسلمعندما فسّر قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [سورة النساء: 80]، وذلك عندما علَّل كون طاعة الرسول طاعةً لله بأنّ الرسولصلى الله عليه وسلم– «يقول عن اللهعز وجل، وما يقول باجتهادعلى فرض أنه يجتهدفإن الله أباحه له، فطاعته فيه طاعةٌ لله»(50).
  • وتوقَّفَ الشيخ أَطْفَيَّش عند بعض الأدلة ونفى دلالتها على اجتهادهصلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة التوبة: 43]. يقول: «فلا دليل في الآية على أَنهصلى الله عليه وسلماجتهد وأَخطأ وأَن له الاجتهاد مطلقا أو في مصالح الدنيا، ولا على أَنه صدر منه الذنب بذكر العفو وبالاستفهام الإِنكاري، فإِنا نقول: الآية أمر له بالأولى، ولو أَبقينا العفو مشعرًا بالإِساءة وأَيضا ذلك إِساءة لهم لم تصل الذنبثم إِنه إِن اجتهد فغايته أَنه اجتهد ولم يصب فله أَجر واحد لا ذنب ولو أصاب لكان له أَجران»(51).

على أنّ نفيه لدلالة الآية على اجتهاد النبيصلى الله عليه وسلملا يعني بالضرورة نفي جوازه له.

كما تعرّض لآيةٍ قال: إنها يُستدلُّ بها على أنهصلى الله عليه وسلملا يجتهد، وتلك الآية هي: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم: 3- 4]، إذ قال: «ويُستدل بالآية على أنهصلى الله عليه وسلملا يجتهد، هكذا كل ما ينطق به وحي، وما كان عن اجتهاد ليس بوحي، فليس مما ينطق به، على أن (هو) ضمير لهصلى الله عليه وسلم، أو لما ينطق به»(52). ثم أخذ ينقض هذا الاستدلال بأنّه «إن قيل: الضمير للقرآن المدلول عليه بالمقام وبالنجمعلى ما مر من تفسيره بقطعة من القرآنلم يتمَّ هذا الاستدلال. ويجاب أيضا بمنع المقدمة الثانيةوهي قولنا: وما كان عن اجتهاد ليس بوحيفإنه إذا جاز له الاجتهاد كان اجتهاده وحيا، لأنه أوحي إليه أن يجتهد، وكأنه قال له الله تعالى: (ما حكمتَ به من اجتهادك فهو حكمي) فما ينطق بهوى، ولا يخلوصلى الله عليه وسلمعن اجتهاد»(53).

وما اعتَرَض به على هذا الاستدلال ذكره من قبل تعقيبا على استدلال القائلين بعدم اجتهاد النبيصلى الله عليه وسلم؛ حيث استدلوا بقوله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [سورة الأنعام: 50]، ونصّ كلامه في ذلك: «واستَدَلَّ بهذا من قال: النبيصلى الله عليه وسلملا يقول باجتهاده مع قوله تعالى: ﴿إِن هو إِلا وحي يوحى﴾، ويجاب برجوع (هو) إلى القرآن»(54).

  • والصحيح عند الشيخ أَطْفَيَّش أنّ النبيصلى الله عليه وسلميجتهد، كما نصّ على ذلك عندما بيّن أنّ الحكمة في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [سورة الجمعة: 2] هي «السنة الموحاة وما يؤدي إِليه اجتهادهصلى الله عليه وسلمالمستند إِليهما على الصحيح، وهو أنه قد يجتهد»(55).

وانعكس رأيُه هذا على تفسيره لبعض الآيات؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [سورة المائدة: 42]؛ حيث قال: «﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل الذي جاءكَ من الله كالرجم أو من اجتهادك إِن لم يكن وحي»(56).

ويمكن أن ألخِّص ما استدلَّ به الشيخ أَطْفَيَّش على أن النبيصلى الله عليه وسلميجتهد في دليلين اثنين، هما:

  1. قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [سورة النور: 62]، ووجه الدلالة أنّ «هذا تفويض في الاجتهاد، وهذا شامل بالقياس للمجتهد بعدهصلى الله عليه وسلم، لأن اختيار ما شاءهصلى الله عليه وسلم، أو شاءه المجتهد بعده قصد للصواب وتحر له، لا حظ له ولا تشه، فالنبيصلى الله عليه وسلمفُوِّض أن يجتهد فيمن يصلح أن يأذن له، ومن لا يصلح»(57).
  2. قوله تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 68]؛ غير أنّ هذا الدليل لا يخصّ اجتهاد النبي محمدصلى الله عليه وسلم؛ بل هو دليل على اجتهاد عموم الأنبياء كما تقدّم ذلك عند الحديث عن اجتهاد الأنبياء قبيل قليل.

ويبدو واضحًا من كلام الشيخ أَطْفَيَّش أنّ اجتهاد النبيصلى الله عليه وسلمقد يكون صوابا يقرّه الله عليه، وقد يكون خطأ يخبره الله بالصَّواب، فقد علّل كون اجتهاده  حجَّةً بأنّ «الله يصدقه فيه ويجعله حجة، وما لم يرضه بينه له فيتركه»(58). وكذلك الأنبياء إذا اجتهدوا فإنهم «إِن أَخطؤوا أَخبرهم الله فيرجعوا إلى الصواب»(59).

المطلب الثاني: بعض أحكام الاجتهاد

ثمّ مسائل تتعلق بالاجتهاد تناولها الشيخ أَطْفَيَّش؛ أُجْملها في المقاصد التالية:

المقصد الأولمجال الاجتهاد:

للاجتهاد مجال لا يصح للمجتهد أن يتجاوزه، فهناك ما لا يصح الاجتهاد فيه، والأمر عائد إلى حقيقة الظنّ الذي نهينا عن اتّباعه كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [سورة الأنعام: 148]، وبحسب تفسير الشيخ أَطْفَيَّش فإنّ الظنّ المحرم هو ما يتعلق بالقطعيّات ويقطع فيه عذر الجاهل، والذي لا يصح أن يُختلف فيها، وما عداه من الفروع التي لم يرد فيها دليل قطعيّ فلا يحرم الظنّ فيها، والاجتهاد إنما هو ظنّ، والظنّحسب تعريف الشيخ أَطْفَيَّشترجيح أحد الجائزين، وعليه فإنَّ الاجتهاد يصح في الظنّيات ولا يصح في القطعيات. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «والآية تحريم للظن فيما فيه قاطع، وذلك في جميع ما يؤخذ ديانة مما يقطع فيه العذر، ولا يسوغ فيه الخلاف، وإِذا لم يعارض قاطع ظني أو عقلي جاز الظن للمجتهد، أَعني أَنه يجتهد في بعض أَحكام الفروع»(60). وقد أكّد هذا عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [سورة النجم: 28] فقال: «والحق في الاعتقادات يلزم فيه الجزم الذي لا يقبل التشكيك، أو مع دليل أيضا، وإنما يكفي الظن في العمليات»(61).

فلا يصح الاجتهادإذنفي الأصول، ولا يصحتبعا لذلكاختلاف العلماء فيها، وقد تعرّض لذلك الشيخ أَطْفَيَّش عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة آل عمران: 105]، ومثّل له بما وقع من خلاف بين هذه الأمة في بعض المسائل العقديّة، حيث قال: «وكالقائلين من هذه الأمة الإجابيَّة بما لا يجوز الخلاف فيه، كرؤية الباري، وكون صفاته غيرَه، وإثبات الجوارح بلا كيف»(62).

والحاصل من كلامه هذا أنه لا يصح الخلاف في الأصول، وأنّ المصيب فيها واحد، ولا يكون هذا فيه رحمة بالعباد، «وأما الاختلاف فيما لا يجوز فيه الفروع للمجتهدين من الصحابة ومن بعدهم فلا بأس به، بل هو رحمة، كما جاء الحديث بمعناهوذكر القاسم بن محمد أن اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى، أخرجه البيهقي وابن سعد، وأخرج أيضًا عن عمر بن عبد العزيز: (ما سرّني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لو لم يختلفوا لم تكن رخصة(63).

وثَمَّ أمر آخر لا يكون فيه الاجتهاد، وهو ما لا يُعلم إلا بالوحي، ولذا يُحكم برفع ما رواه الصحابيّ ولو لم يرفعه إلى النبيصلى الله عليه وسلمإذا كان ما قال لا يُعلم بالاجتهاد ولا مجال للرأي فيه، ومثال ذلك روايةٌ موقوفة على ابن عباس ذكرها الشيخ أَطْفَيَّش وقال: إنها في حكم الرفع لذات السبب، فقد قال: «وعن ابن عباس: (صدقة التطوع في السر تفضل علانيتها بسبعين، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها سرها بخمسة وعشرين)، وهو حديث موقوف في حكم المرفوع، إذ لا يعلم ذلك بالاجتهاد»(64).

المقصد الثانيهل كلّ مجتهد مصيب؟

اختلف العلماء في الاجتهاد هل المصيب فيه كلُّ مجتهد أو المصيب واحد والبقية مخطئون؟ فمنهم من قال: كل مجتهد مصيبوهم المصوّبة، ومنهم من قال: المصيب واحد فقطوهم المخطِّئة، وهذا هو مذهب الجمهور(65).

وقد بيّن الشيخ أَطْفَيَّش هذه المسألة وذكر الخلاف فيها، وضعَّفَ قول المعتزلة بتعدد الحقّ، وذكر أنّ الحق عند الله حال اختلاف المجتهدين مع فريق واحد فقط، على أنّه يمكن أن يكون الحق في غير ما قال المجتهدون، ولكن لا يعني ذلك ضلالهم، بل هم مأجورون على اجتهادهم، ونصّ كلامه في ذلك: «وإن اختلف المجتهدون فالحق عند الله مع واحد فقط، وغيره مأجور، ويجوز العمل بما قال، وقد يكون الحق عند الله غير ما قالوا، مع أن ما قالوا لا يعد ضلالا عليهم، وقالت المعتزلة: الحق متعدد بحسب أقوال المجتهدين، وهو ضعيف، وإما أن يقال: كل واحد مأجور يجوز العمل بما قال، وأن كلَّ واحد العمل به حق في حق المقلد فلا بأس»(66).

ولم يَقصِر الشيخ أَطْفَيَّش المسألة في عموم المجتهدين بل نصّ على أن النبيصلى الله عليه وسلمإذا اجتهد فإنه قد يخطئ، ولكن لا يقره الله على الخطأ، وله أجر اجتهاده، ومن هنا قال: «ثم إِنه [صلى الله عليه وسلَّم] إِن اجتهد فغايته أَنه اجتهد ولم يصب فله أَجر واحد لا ذنب، ولو أصاب لكان له أَجران»(67). بل الأمر يشمل الأنبياء كلهم إذا اجتهدوا فإنهم «إِن أَخطؤوا أَخبرهم الله فيرجعوا إلى الصواب»(68).

واستدل الشيخ أَطْفَيَّش على أنّ المجتهد قد يخطئ بما «روي أن رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال لعمرو بن العاص: (اقض بين هذين) فقال: أأقضي وأنت حاضر؟! فقال: (نعم) قال: على ماذا أقضي؟ قال: ((على أنك إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك أجر واحد))، فقد بينصلى الله عليه وسلمأن المجتهد يصيب ويخطئ»(69).

المقصد الثالثخطأ المجتهد:

هل يعاقب المجتهد إذا أخطأ؟ نجد الشيخ أَطْفَيَّش يذكر أنّ قوله تعالى الآتي يفيد ذلك: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 67- 68]، ولكنّه تعقّب ذلك بما روي عن النبيصلى الله عليه وسلمأن للمجتهد إذا أخطأ أجرًا. يقول الشيخ: «بقي أَن الآية تفيد أَن المجتهد يعاقب على خطئه، والمروي أَن له أَجرا وله على أصابته أَجران إلى عشرة. الجواب أَن المراد ﴿لولا كتاب من الله سبق أَن لا عقاب على مجتهد»(70).

وكون المجتهد المخطئ لا يعاقب على خطئه هو ما جرى عليه الشيخ أَطْفَيَّش في مواضع متعددة، وتكرَّر أنه يسوق للتدليل على ذلك حديث النبيصلى الله عليه وسلم-: ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ))(71)(72).

والدليل الآخر الذي استدلّ به الشيخ أَطْفَيَّش على أنّ المجتهد معذور في خطئه قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [سورة الأنبياء: 78- 79]، وذلك أنه قال: «وفي الآية إلى قوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ مدحٌ لسليمان بأنه فهم ما لم يفهم أبوه، وأن المجتهد معذور في خطئه، وأن حكمه علم ولو أخطأ»(73).

وهنا يُنبِّه الشيخ أَطْفَيَّش إلى أنّ المجتهد المخطئ «إنما أثيب على اجتهاده، لا على خطئه»(74).

المقصد الرابعمسائل متفرِّقة:

هناك بعض القضايا والمسائل المتفرّقة المتعلّقة بالاجتهاد ذكرها الشيخ أَطْفَيَّش بإيجاز، أجملها في التالي:

  1. مكانة المجتهد: فللمجتهد مكانة تنبع من مكانة الاجتهاد وأهميّته، ومن ذلك أنّ قوله ملتحق بما قال الرسولصلى الله عليه وسلمفي النهي عن التقديم بين يديه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [سورة الحجرات: 1]. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «ويلتحق بما قال رسول الله ما يقول المجتهد المتأهل للاجتهاد»(75).
  2. التأهّل للاجتهاد: منهج الشيخ أَطْفَيَّش واضح في أنّ الناس بين مجتهد ومقلّد، وأن الاجتهاد له آلاته الخاصّة متى ما توافرت أهّلت المكلّف للاجتهاد، ولا يصح الاجتهاد إلا ممن تأهَّلَ له. ومعنى هذا أنّ الاجتهاد ليس مُشرَع الأبواب لكلّ شخص، فلا يقدر عليه إلا من تأهّل له وتوافرت فيه ملكته وشروطه، وقد أشار إلى هذا في قوله: «…والاجتهاد لمن تأهَّل له»(76)، وقوله أيضا: «…ما يقول المجتهد المتأهل للاجتهاد»(77).

ولذلك لا يمكن لطلبة العلم كلهم بله عامة الناس الاجتهاد والاستنباط، فلا يستطيعه إلا فحول الرجال الذين وهبهم الله القدرة على فهم نصوص الدين واستنباط الأحكام منها، وفي هذا الشأن يورد الشيخ أَطْفَيَّش قصّة من قام بحرق كتب الفروع طمعًا في أن يستنبط طلبةُ العلم الأحكامَ من كتب الحديث، وتعقَّبَ ذلك بما سبق تقريره من أنّ الاستنباط لا يقوى عليه إلا الأفذاذ.

يقول: «وقد أمر عبدُ المؤمن بتحريق كتب الفروع، وردّ الناس إلى قراءة كتب الحديث، واستنباط الأحكام منها، وكتب بذلكوهو في المغرب الأقصىإلى جميع طلبة العلم من بلاد أندلس والعُدْوة، قلت: ذلك حسن لولا أنه لا يقدر الطلبة كلهم على الاستنباط، وليس يوجد في كل قطر طالب يستنبط فقد يتعطل أمر العامة بذلك، وليس يوجد في كل موطن مجتهد، وكذا أمر بنوه من بعده الناس بأن تؤخذ الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة مباشرة على طريق الاجتهاد المطلق، وحرقوا كثيرًا من كتب الفروع الحادثة، واستحسنه بعض علماء عصرهم، ومنهم ابن العربي استحسنه»(78).

  1. اجتهاد المجتهد بلا تَحَرٍّ: يشترط في الاجتهاد أن يكون القصد منه إرادة الصواب لا حظّ للنفس فيه، وعلى المجتهد تحرّي الحق، وفي هذا السياق بَيَّنَ الشيخ أَطْفَيَّش أنه لا يجوز الحكم بلا تحرٍّ، وإنما يجوز إذا تساوى الأمران ولم يكن ثَمَّ ما يرجِّح أحدهما، على أنّه لو استوى الأمران ولم يكن مرجِّح فليس للمجتهد أن يحكم بما تميل إليه نفسه بل عليه أن يترك ما مالت إليه النفس. يقول: «وأما أن يقال: احكم بما شئت بلا تحرٍّ، فلا يجوز إلا إن استوى الأمران، ولم يمكن الترجيح بوجهٍ ما، وإن استويا كذلك، فإن مالت النفس لأحدهما فهو الذي يتركه إذ مالت إليه لغير أمر شرعي، واختلف إن قيل: احكم بما شئت تشهيا ألا يجوز أم يجوز أم للنبي خاصة، ولم يقع منه أو وقع أقوال»(79). وهذا الكلام في سياق تفسير قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [سورة النور: 62].
  2. شرع من قبلنا مقدّم على الاجتهاد: وقد سبق بيان رأي الشيخ أَطْفَيَّش في شرع من قبلنا أنّه حجّة على تفصيل سبق بيانه، ويرى أنّه يُقدّم على الاجتهاد. يقول: «والمذهب أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، والذي عندي أنه شرع لنا، وأنه يقدم على الاجتهاد ما لم ينافه القرآن أو الحديث أو الإجماع بدليل راجح»(80).
  3. أقوال المجتهد: يذكر الشيخ أَطْفَيَّش أنّ الحكم الناشئ عن الاجتهاد ظنيّ وليس قطعيًّا، وأنّه يجوز لغير المجتهد تقليده فيه، كما يجوز لغيره من المجتهدين حكايتها لمن يعمل بها. يقول: «وأقوال العلماء في الفروع ظنيات، ويجوز تقليد غير المجتهد فيها، ويجوز للمجتهدين حكايتها لمن يعمل بها»(81).

و«لا يُرَد قول مجتهد بقول آخر»(82).

«ولا بأس برجوع المجتهد إلى غير ما ظهر إذا رآه أفضل، كما ترجع الصحابة بعض إلى بعض، ألا ترى قولهعز وجل-: ﴿ففهمناها﴾»(83).

«وإذا عيَّنَ الوحيُ واحدا تعين في العمل به، وتُرِكَ غيرُه كحكم داود»(84).

  1. إذا ضاق الوقت على المجتهد: الأصل أنَّ على المجتهد أن يستفرغ الوسع في النازلة ليحكم فيها بما أداه إليه اجتهاده، ولكن قد يضيق الوقت عليه فلا يتمكن من النظر في النازلة، وهنا يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «وان ضاق الوقت على المجتهد جاز له العمل بقول مجتهد»(85).
  2. إفتاء المجتهد بقول غيره: يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «ويجوز للمجتهد أن يفتي بما لغيره فيقول: هذا قول فلان، أو هو في كتاب كذا، أو في الأثر، ولو لم يتأمل فيه إذا لم يظهر له فساده»(86).
  3. «والوحي لا يبطل بالاجتهاد»(87).

المبحث الثاني: التقليد

المطلب الأول: حقيقة التقليد

التقليد في اللغة: مأخوذ من القلادة(88)، ويذكر الشيخ أَطْفَيَّش أنّ التقليد هو الإلزام. يقول: «قلَّد يقلد تقليدًا، وسائر تصاريفه، وهو من معنى الإلزام، تقول: قلَّد القضاء أي: ألزم نفسه النظر في أموره، والمقاليد المفاتيح، كمفتاح الباب للزومه للباب، والقلادة لازمة للعنق»(89)، وعلى هذا فكأن المقلِّد ألزم نفسه اتِّباع من قلَّده لا يخرج عن رأيه.

وهو في الاصطلاحكما عرّفه ابن خلفون-: «قبول قول قائل من غير دليل ولا برهان»(90).

يقول الشيخ أَطْفَيَّش في (شامل الأصل والفرع): «هو قبول القول أو الفعل أو التقرير الدال على الرضى من غير دليل، فإن كان من غير دليل فتقليد، وأما قبوله بدليل فليس تقليدا ولا اجتهادا؛ بل بواسطة تسمى تقييدا، وادَّعى بعض أنه اجتهاد وافق اجتهاد الأوّل، وأما اتباع مجتهد مجتهدا آخر بعد النظر في الدليل الأول فاجتهاد لا تقليد»(91).

ولم يكن التقليد كصورته التي استقرّ عليها بعد نشوء المذاهب، فإنه بعد أن نشأت المذاهب أصبح عامّة الناس يقلّدون مذهبا معيَّنا، وأصبح العلماء يجتهدون في إطار المذهب الذي يتّبعونه، وقد كان العلماء قبل ذلك ليسوا محصورين في مذهب معيّن، ولا كان مقلّدوهم يميزون بين عالم وعالم على أساس مذهبيّ.

وقد أبان ذلك الشيخ أَطْفَيَّش، وأنّ المذاهب وما تبعها من تقليد ظهر في آخر القرن الثاني الهجريّ، وهو إذ يذكر ذلك يوضّح أمرين: الأول: أنّ جابر بن زيد كان قبل أئمة المذاهب الأربعة، والثاني: أنّ الناس لم يتفقوا على هؤلاء الأئمة بل ذاق بعضهم ما ذاق من التنكيل. يقول: «وقد كان الناس لا يعرفون إلا القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد لمن تأهَّل له، ثم كانت المذاهب والتقليد، وإنما ظهر بعضها في آخر القرن الثاني، فإن عمر الإمام مالك عام واحد حين مات إمامنا جابر بن زيد، إذ مات عام ستة وتسعين، ومالك ولد عام خمسة وتسعين، ومات عام مائة وتسع وسبعين، وعمر أبي حنيفة حين مات جابر خمسة عشر عامًا، لأنه ولد عام ثمانين من الهجرة، ومات عام مائة وخمسين، ولا وجود للشافعي وأحمد في زمان جابر، لأن الشافعي ولد سنة مائة وخمسين، ومات سنة أربع ومائتين، وأحمد سنة مائة وأربع وستين، ومات عام مائتين وواحد وأربعين»(92).

المطلب الثاني: مجال التقليد وحكمه

التقليد إما أن يكون في الأصول، وإما أن يكون في الفروع العمليَّة، وقد اهتمّ الشيخ أَطْفَيَّش ببيان ما يجوز فيه التقليد من ذلك وما لا يجوز.

فأما التقليد في الأصول فقد قَرَّرَ فيها أنَّ التقليد فيها لا يصح إن كان تقليدا بلا دليل، فقد قال في سياق تفسير قوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [سورة الكهف: 15]: «﴿بِسُلْطَانٍ﴾ بُرْهَان قوي يتسلط على ما هو الحق بالإبطال ﴿بَيِّنٍ﴾ ظاهر، إذ لا تصح الديانة تقليدًا بلا دليل»(93).

وبما أنّ التقليد في الديانة غير حجّة لم يردّ الله تعالى على قول المشركين: إنا وجدنا عليها آباءنا، وإنما ردّ على ادّعائهم أنّ الله أمرهم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأعراف: 28]. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «ولم يذكر الرد على قولهم وجدنا عليها آباءَنا لظهور أَن التقليد غير حجة ولو كان حجَّة لصحَّت الأَديان التقليدية المتناقضة كلها، والموجود أَن كلا يُضلِّل الآخر، وصدقُ المتناقضين محال»(94).

وليس من التقليد في الأصول ما أمر الله به نبيّه محمداصلى الله عليه وسلمبالاقتداء بهدي من قبله من الأنبياء في قوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [سورة الأنعام: 90]. يقول الشيخ أَطْفَيَّش: «﴿فِبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ اتبعهم في عبادتهم وديانتهم وصبرهم وتقواهم إِلا ما نُسِخَ فهو أَفضل منهم جملةوليس ذلك تقليدا في الأُصول والديانات فإِن العلماءَ اختلفوا فيه في توحيد المقلِّد واعتقاده أُصول الديانة بلا دليل هل يجزي، وكيف يجزي رسول اللهصلى الله عليه وسلمفهو يقتدي بهم من طريق الوحي والأَدلة العقلية»(95).

ومع ذلك يُصحِّح الشيخ أَطْفَيَّش جواز تقليد العاميّ لمن اطمأن إليه قلبه إذا وافق الحقّ، ولو كان ذلك المقلَّد امرأةً، وهو إذ ذاك يذكر الخلاف في المسألة واصفًا بعض الأقوال بالبطلان. يقول: «والتقليد في الأصول جائز ومُجزٍ إذا كان مصدقا لمن أفتى له، واطمأن إليه قلبه إذا وافق الحق ولو امرأة، ولا يخلو عن ذلك عامة الموحدين، حتى قال بعض قومنا: إن النظر فيها حرام وهو باطل، والصواب جوازه، بل وجوبه بمن قدر، وقيل: لا يجوز التقليد في الأصول، ومن قلَّد وأصاب أجزاه توحيده، وعصى بعدم النظر»(96).

وزاد ذلك تأكيدا عندما قال: «وتوحيدهصلى الله عليه وسلمبالحجة والتقليد، ويكفي غيره التقليد الجازم على الصحيح عندنا معشر الإباضية الوهبية»، وهذا القولوهو صحَّة توحيد المقلِّد– «حكاه القشيري عن الأشعريّ قائلا: إن ما حُكِيَ عن الأشعري من أنّ توحيد المقلِّد غير صحيح افتراء عليه»(97).

والحاصل مما تقدّم أنّ التقليد في الأصول والديانات لا يصحّ إن كان عن غير دليل، ويصحّ إنّ كان ناشئا عن دليل على الصحيح عند الشيخ أَطْفَيَّش.

وأما التقليد في الفروع فقد نصَّ على جوازه الشيخ أَطْفَيَّش حين قال: «وأقوال العلماء في الفروع ظنيات، ويجوز تقليد غير المجتهد فيها، ويجوز للمجتهدين حكايتها لمن يعمل بها»(98).

وخلاصة ما تقدّم يمكن أن أختزلها في قول الشيخ أَطْفَيَّش: «وإِنما يمنع التقليد إِذا قام الدليل على خلافه»(99)، فيصح التقليد إذا كان لا يعارض الدليل، ولا يصح إذا عارضه، ولا يكون التقليد حينها عذرًا، «فقد ثبت في العقول أن التقليد في الأُمور على الإِطلاق دينية أو دنيوية لا يكون عذرًا مع قيام الدليل والتمكن من العلم»(100).

الخاتمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد فهذه طائفة من النتائج والتوصيات التي خلصت إليها من خلال البحث في مسائل الاجتهاد والتقليد في تيسير التفسيرللشيخ أطفيش، وهي كما يلي:

أولاًالنتائج:

  1. لم يتوسّع الشيخ أطفيش في مسائل الاجتهاد والتقليد في تفسيره بخلاف بعض المسائل الأصولية الأخرى التي تناولها في مواضع كثيرة من تفسيره بشيء من التفصيل.
  2. تناوُل الشيخ أطفيش لمسائل الاجتهاد والتقليد منطلِقاً من تفسير الآيات القرآنية الكريمة على سبيل الاستدلال أو الاستطراد.
  3. لم يكتفِ الشيخ أطفيش بعرض مسائل الاجتهاد والتقليد بل كان رأيه في كثير منها واضحا من خلال ذكر الصحيح والراجح من الأقوال في المسائل المختلف فيها.
  4. في تفسير الشيخ أطفيش تيسير التفسيرمادّة أصوليّة وفيرة تعطي الباحث مجالا واسعا للبحث في مجالي التأصيل والتطبيق.

ثانياالتوصيات:

  1. الاعتناء بدراسة التراث الأصوليّ دراسةً مُعمّقة تكشف عن مخزون الأمة الفكريّ.
  2. تقريب أصول الفقه للدارسين من خلال ربط قواعده بأمثلةٍ حيّة غير افتراضية ولا بعيدة عن النصوص الشرعيّة.
  3. تجريد علم أصول الفقه من المسائل الدخيلة عليه والتي لا دور لها في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.

المصادر والمراجع

  1. أَطْفَيَّش، امحمد بن يوسف، ط1، 1425ه– 2004م، تيسير التفسير، تحقيق: إبراهيم بن محمد طلاي، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان.
  2. أَطْفَيَّش، محمد بن يوسف، د.ط، 1404ه/1984م، شامل الأصل والفرع، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان.
  3. أَطْفَيَّش، محمد بن يوسف، د.ط، 1407ه– 1987م، تيسير التفسير، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان.
  4. الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروتدمشقلبنان.
  5. البخاري، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، د.ط، د.ت، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، دار الكتاب الإسلامي.
  6. الزحيلي، محمد مصطفى، ط2، 1427ه– 2006م، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا.
  7. السالمي، عبدالله بن حميد، د.ط، 2010م، طلعة الشمس شرح شمس الأصول، تحقيق: عمر حسن القيّام، مكتبة الإمام السالمي، بديّة – سلطنة عمان.
  8. السبكي، علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام، وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب، 1416هـ– 1995 م، الإبهاج في شرح المنهاج (منهاج الوصول إلي علم الأصول للقاضي البيضاوي المتوفي سنه 785هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
  9. الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، ط1، 1419هـ– 1999م، إرشاد الفحول، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي.
  10. الطوفي، سليمان بن عبد القوي بن الكريم، 1407ه– 1987م، شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية.
  11. المزاتي، يوسف بن خلفون، أجوبة ابن خلفون، تحقيق: عمرو خليفة النامي، دار الفتح، بيروت، لبنان، ط1، 1974.
  12. المقدسي، محمد بن مفلح بن محمد، ط1، 1420ه– 1999م، أصول الفقه، حققه وعلق عليه وقدم له: الدكتور فهد بن محمد السَّدَحَان، مكتبة العبيكان، السعودية.
  13. ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي، ط3، 1414 ه، لسان العرب، دار صـادر – بيروت.
  14. النسائي، أحمد بن شعيب بن علي، ط1، 1421هـ– 2001م، السنن الكبرى، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالةبيروت.
  15. النملة، عبد الكريم بن علي بن محمد، ط1، 1420هـ– 1999م، الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ (تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)، مكتبة الرشد – الرياض.

1() بحاز وآخرون، معجم أعلام الإباضية (قسم المغرب)، رقم الترجمة: 864.

2() السالمي، شرح الجامع الصحيح، جـ3، صـ593- 594.

3() أطفيش، شرح لامية الأفعال، جـ4، صـ437.

4() أطفيش، مقدمة الذهب الخالص، صـ8.

5() المرجع السابق، صـ8.

6() وينتن، آراء الشيخ امحمّد بن يوسف أطفيش العقدية، صـ25.

7() المرجع السابق، صـ25.

8() صالح بن سيوسيو، شخصية القطب أطفيش من خلال تواصله مع الدولة العثمانية، ع14، صـ108.

9() وينتن، آراء الشيخ امحمّد بن يوسف أطفيش العقدية، صـ27. جهلان، الفكر السياسي عند الإباضية، صـ105.

10() وينتن، آراء الشيخ امحمّد بن يوسف أطفيش العقدية، صـ27.

11() دبوز، نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة، جـ1، صـ293.

12() وينتن، آراء الشيخ امحمّد بن يوسف أطفيش العقدية، صـ44- 45.

13() يقول الإمام السالمي في سياق ذكر شُرّاح كتاب (دعائم الإسلام) لابن النظر: «ثم تناوله البحر الزاخر والبدر الباهر الذي يقال في حقه كم ترك الأول للآخر قطب الأئمة وعالم الأمة محمد بن يوسف أطفيش المغربي فشرحه شرحًا كافيًا شافيًا». السالمي، اللمعة المَرضيَّة من أشعة الاباضية، صـ24.

14() أطفيش، الدعاية إلى سبيل المؤمنين، صـ107 (الهامش).

15() جهلان، الفكر السياسي عند الإباضية، صـ108- 109.

16() أطفيش، الدعاية إلى سبيل المؤمنين، صـ107 (الهامش).

17() أطفيش، الدعاية إلى سبيل المؤمنين، صـ107 (الهامش).

18() وينتن، آراء الشيخ امحمّد بن يوسف أطفيش العقدية، صـ63.

19() أطفيش، الذهب الخالص المنوه بالعلم القالص، ص13 (المقدمة).

20() للتفصيل انظر: جهلان، الفكر السياسي عند الإباضية، صـ112- 116. وانظر الملحق الخاص بقائمة مؤلفات القطب في كتاب: آراء الشيخ امحمد بن يوسف أطفيش العقدية لوينتن، صـ479.

21() ابن منظور، لسان العرب، جـ3، صـ135.

22() هذا التعريف للبيضاوي. ينظر: السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج، جـ3، صـ236.

23() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ8، صـ175.

24() المرجع السابق، جـ3، صـ461.

25() المرجع السابق، جـ8، صـ176.

26() المرجع السابق، جـ3، صـ461.

27() المرجع السابق، جـ8، صـ176.

28() المرجع السابق، جـ4، صـ91.

29() المرجع السابق، جـ3، صـ284.

30() المرجع السابق، جـ2، صـ397.

31() المرجع السابق، جـ4، صـ397.

32() ابن مفلح، أصول الفقه، جـ4، صـ1469.

33() السالمي، طلعة الشمس، جـ2، صـ400.

34() الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، جـ2، صـ276.

35() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ8، صـ175.

36() المرجع السابق، جـ8، صـ175- 176.

37() المرجع السابق، جـ4، صـ499.

38() المرجع السابق، جـ10، صـ157.

39() المرجع السابق، جـ9، صـ207.

40() المرجع السابق، جـ3، صـ461. (بتصرف يسير = «تسهيل» بدل «وسهّلتُ»).

41() المرجع السابق، جـ1، صـ348.

42() المرجع السابق، جـ8، صـ176.

43() المرجع السابق، جـ8، صـ176.

44() المرجع السابق، جـ14، صـ148.

45() المرجع السابق، جـ8، صـ139.

46() المرجع السابق، جـ4، صـ518.

47() المرجع السابق، جـ2، صـ396- 397.

48() ينظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، جـ4، صـ165. الطوفي، شرح مختصر الروضة، جـ3، صـ594. البخاري، كشف الأسرار، جـ3، صـ305.

49() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ5، صـ7.

50() المرجع السابق، جـ3، صـ79- 80.

51() المرجع السابق، جـ6، صـ30.

52() المرجع السابق، جـ14، صـ125.

53() المرجع السابق، جـ14، صـ125- 126. (بحذف واو من بداية النصّ)

54() المرجع السابق، جـ4، صـ288.

55() المرجع السابق، جـ15، صـ61.

56() المرجع السابق، جـ4، صـ40.

57() المرجع السابق، جـ10، صـ157. (بتصرف يسير = حذف واو من بداية النصّ)

58() المرجع السابق، جـ5، صـ7.

59() المرجع السابق، جـ5، صـ370.

60() المرجع السابق، جـ4، صـ499.

61() المرجع السابق، جـ14، صـ147.

62() المرجع السابق، جـ2، صـ419- 420.

63() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير (طبعة التراث)، جـ2، صـ139.

64() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ2، صـ184.

65() ينظر: السالمي، طلعة الشمس، جـ2، صـ407. النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن، جـ5، صـ2349.

66() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ1، صـ348.

67() المرجع السابق، جـ6، صـ30.

68() المرجع السابق، جـ5، صـ370.

69() المرجع السابق، جـ9، صـ323.

70() المرجع السابق، جـ5، صـ370.

71() النسائي، سنن النسائي، كتاب: آداب القضاة، باب: الإصابة في الحكم. رقم الحديث: 5381، جـ8، صـ223.

72() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ2، صـ420. وجـ9، صـ323.

73() المرجع السابق، جـ9، صـ323.

74() المرجع السابق، جـ9، صـ324. (بحذف واو من أول النصّ)

75() المرجع السابق، جـ13، صـ402.

76() المرجع السابق، جـ10، صـ34.

77() المرجع السابق، جـ13، صـ402.

78() المرجع السابق، جـ13، صـ403.

79() المرجع السابق، جـ10، صـ157.

80() المرجع السابق، جـ2، صـ27.

81() المرجع السابق، جـ14، صـ147.

82() المرجع السابق، جـ8، صـ238.

83() المرجع السابق، جـ9، صـ322.

84() المرجع السابق، جـ9، صـ323.

85() المرجع السابق، جـ14، صـ147.

86() المرجع السابق، جـ9، صـ166.

87() المرجع السابق، جـ9، صـ322.

88() الشوكاني، إرشاد الفحول، جـ2، صـ239.

89() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ12، صـ295.

90() ابن خلفون، أجوبة ابن خلفون، صـ99.

91() أَطْفَيَّش، شامل الأصل والفرع، جـ1، صـ18.

92() أَطْفَيَّش، تيسير التفسير، جـ10، صـ34- 35.

93() المرجع السابق، جـ8، صـ302.

94() المرجع السابق، جـ5، صـ40.

95() المرجع السابق، جـ4، صـ369.

96() المرجع السابق، جـ11، صـ179- 180.

97() المرجع السابق، جـ4، صـ301.

98() المرجع السابق، جـ14، صـ147.

99() المرجع السابق، جـ5، صـ41.

100() المرجع السابق، جـ5، صـ229. (بتصرف يسير= إبدال الواو بالفاء في أوّل النصّ)