The fundamentalist term is the license of Ibn Ashour through his book
The Purposes of Islamic Law
Abdelkader Hacini ben Ali
Achour Boukalkoula ben El Mabrouk
Faculty of Humanities and Social Sciences and Islamic Sciences || University of Ahmed Deraya Adrar || Algeria
المصطلح الأصولي عند ابن عاشور – الرخصة أنموذجا–
عبد القادر حسيني بن علي
عاشور بوقلقولة بن المبروك
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية || جامعة أحمد دراية أدرار || الجزائر
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعدُ فقدْ عُلِم أنّ طريقة اللّغة العربية في التّوالد قائمة على اتّخاذ قوالب للمعاني تُصبّ منها الألفاظ، وهياكل تبنى وفق هيئاتها موادّ الكلمات، فتختلف حينئذ في الوظيفة التي تُؤدّيها، والدّلالة التي تدلّ فيها عليها، منسجمة على أسُس مصطلحية دقيقة جعلت من المصطلح مخصوص الإطلاق على مطلق الاتّفاق، بيد أنّ أغلب التّعريفات جرى تعريفها للمصطلح على أنّه اللّفظ الموضوع لمعنًى يدلّ على شيء معلوم يتميّز به عما سواه.
أ. أهمية البحث:
أولا: أهميته من خلال منهج الدّراسة المصطلحية عموماً
- منهج الدّراسة المصطلحية هو نموذج يمكنُ تطبيقه على مختلف التخصصات والعلوم، بناء على أن العلوم توجد في النصوص، والمنهج لا يمكنُ أن يتصوّر إلا مطبّقا على نص، والنص الذي تمّت دراسته في هذا البحث هو كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية عند ابن عاشور، عن طريق إفراد النظر في مصطلح (الرخصة) الأصولي عنده.
- منهج الدراسة المصطلحية من خلال مستواه النّظري ومن خلال مستواه التطبيقي يعتمد على العلمية بشروطها في الوسائل، من الاستيعاب إلى التّحليل فالتّعليل، فالتّركيب، ويعتمد التكاملية أيضًا حسب أولوياتها أيضاً من الوصفية فالتكاملية، فالموازنة في المقارنة، ويمكن تطبيقه على حسب المقارنة على كلّ مصطلحات العلوم، في جميع التّخصّصات.
ثانيا: أهميته من خلال المصطلح الأصولي
- تخصيصُ المصطلح الأصولي بأنه كلّ لفظ يدلّ على شيء معلوم عند الأصوليين يتميّز به عما سواه، وهنالك فرق بين المصطلح وبين المفهوم؛ فالمصطلح أن تتفق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص، بينما عالم المفاهيم يحوي شبكة من الخصائص والمواصفات التي تتحدّد بها الموضوعات التي تتّصل بقضية ما.
- البحث في المصطلح الأصولي يكتسي جانباً مهماً في التجديد في بناء المفاهيم في الدرس الأصولي، وذلك لأهمية التعريفات في الضبط في المصطلحات، ومن ثمت في إدراك حقائق العلوم والأخذ بناصيتها.
ثالثا: أهميته من خلال نصّ الدراسة
- إنّ الناظر في (كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية) لابن عاشور يجدُ أنه يشكل فاتحة مرحلة جديدة من المراحل التي مرّ بها علم أصول الفقه (عمومًا) في تاريخه الطّويل، فأضحى منطلق الكتابة والتأليف في مقاصد الشّريعة على القول باستقلالية مباحثه وعدمها، لمن جاء بعده، وما بلغ تلك المكانة، وارتقى تلك المنزلة، إلاّ لأنه حفَل بما غاب وُجوده في غيره من مؤلّفات أهل زمانه.
- يجلي هذا البحث أهمية المصطلح الأصولي عند ابن عاشور في تطوير الجانب المفاهيمي، للدرس الأصولي من وجه، وفي دعوته إلى استقلالية مباحث مقاصد الشّريعة الإسلامية التي تكتسي مصطلحاتها طابعاً أصولياً من جهة أخرى.
ب) أهداف البحث
- يعكس هذا البحث جانبا تجديديًا مهماً يبرز موقف ابن عاشور الذي لا يخرجُ فيه إلاّ عن اختيار يختارهُ لنفسه، وتحقيقاتٍ ينفرد بها، فقد أقام- رحمه الله تعالى- صرح المقاصد بالأصول، فجمع في تحليلاته واستدلالاته بين صريح المعقول ومنطوق المنقول، وبين دقائق الكليات وغوامض الجزئيات، وهذا الإبداع كان له انعكاسٌ واضحٌ على الجانب المصطلحي.
- تهدف هذه المطارحة الفكرية إلى تجلية الجوانب الإبداعية التي خُصَّ بها ابن عاشور الدّرس الأصولي من الناحيتين البنائية والبيانية، وذلك من خلال انتهاج منهج تحليلي يسبر غوامض الجوانب المصطلحية لمصطلح الرخصة من حيث التأصيل والتدليل.
- انتهاج منهج الدّراسة المصطلحية؛ لمعالجة الجوانب الدلالية، والقدرة الاستيعابية للمصطلح الأصولي- الرخصة- أنموذجا.
ج. مشكلة البحث
من خلال هذا كلّه يحسُن طرح الإشكال التّالي: هل لابن عاشور بعدٌ تأسيسيٌّ في تكوين المصطلح الأصولي واستعماله؟ إلى أي مدى يصحّ إطلاق تعريف المصطلح الأصولي الذي ارتضاه ابن عاشور لبعض المصطلحات الأصولية (الرخصة..)؟، ويُستهلُ تقديم هذه الإشكالات بفرضيّة مساوقة لها، في كون أنّ لابن عاشور بعدٌ تأسيسيّ في تكوين المصطلح الأصولي، أمّا مدى ذلك فتكشف عنه هذه المطارحة على مستوى مصطلح الرّخصة الأصولي.
د)- منهج البحث
تمّ من خلال هذا البحث الاعتماد بشكل أساسي على المنهج الاستقرائي التحليلي؛ من خلال استقراء وتتبع المصطلح الأصولي عند ابن عاشور من خلال كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية، ويظهر ذلك من خلال وصف وتحليل الوقائع التي تمّ التّعرّض لها في أفنان السّيرورة البحثية.
ه)- طبيعة عمل الباحث فيه
- يَتِمُّ بحث جوانب هذا الموضوع، ومُعالجة مباحثه من خلال تتبّع المصطلح الأصولي الذي سجّله يراع إمام المقاصد ابن عاشور، بلغة سهلة بسيطة.
- يتمُّ عرض المصطلح الأصولي بشكل عام، ثمّ استثماره في الجانب التقعيدي عند ابن عاشور، قصد اقتناص القواعد الأصولية، والمقاصدية مما سجله نتاج ابن عاشور.
و)- خطة البحث
ينطوي هذا البحث على مجموعة من المباحث:
المبحث الأول: مصطلح الرخصة ؛ جاء فيه حديث حول ماهية المصطلح، وحقيقة الوحدة المصطلحية، ثم الحديث حول الدّراسة المصطلحية، أما المبحث الثاني: فورد فيه كلامٌ حول مصطلح الرخصة بين الدّرس اللغوي والدرس الأصولي، ويتناول المبحث الثالث حديثًا حول ابن عاشور وكتابه مقاصد الشّريعة الإسلامية؛ ليختتم الحديث بمنهج الدراسة المصطلحية عند ابن عاشور في المبحث الرابع.
ز)- الدّراسات السابقة
المصطلح الأصولي عند الشّاطبي؛ لفريد الأنصاري، الطبعة الأولى سنة 1424هــ- 2004م، الصّادر عن معهد الدّراسات المصطلحية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وأصله رسالة دكتوراه، كانت أول دكتوراه في الدّراسات الإسلامية بالمغرب تدرُس المصطلح بمنهج الدّراسة المصطلحية، انطلق فيها مؤلّفها من محاولات سابقة في الدّراسات المصطلحية، إلاّ أنها برزت في مجالها لخصوصية المجال الذي بحثت فيه، عرض فيها صاحبها؛ منهجية الدّراسة المصطلحية، خصوصية المصطلح الشّرعي، ثمّ طبيعة المصطلح الأصولي، وكيفيته عند الشّاطبي، تقترب هذه الدّراسة من دراسة الأنصاري من حيث جانب التّخصيص في الباب الثّاني منها عند تطرقها لمعالم الدّراسة المصطلحية، ومصطلح الرخصة وتختلفُ عنها في الباب الأول لإفراد النّظر في كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية لابن عاشور.
أما كتاب المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم، لعلي جمعة محمد عبد الوهاب، الطبعة الأولى 1417هــ- 1996م، الصّادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، فقد حاول فيه مؤلّفه المعالجة النظرية والتطبيقية لقضية المفاهيم والمصطلحات من خلال الحديث عن قضية المصطلح والاصطلاح، وتطبيقه على مصطلح القياس، باعتباره مصطلحًا أصوليًا، قدّم فيه بمدخلٍ لقضية المفاهيم والمصطلحات، في ثلاثِ مباحث تناول في المبحث الأول المدخل، وفي المبحث الثاني الاصطلاح، وأفرد المبحث الثالث للتطبيق على شرح مصطلح القياس، تفترقُ هذه الدّراسة مع هذه الدراسة كون الثّانية سيقت أساسًا لمعالجة بعض المصطلحات التي شاع التلاعب بمفاهيمها، بينما هذه الدّراسة تؤسّس لجانب تجديدي في المصطلح الأصولي عند ابن عاشور، لمصطلح الرخصة أنموذجاً كما تربط منهج الدراسة المصطلحية بالمصطلح الأصولي.
المبحث الأول: التّعريف بمصطلح الرّخصة
يتضمن هذا المبحث الحديث حول ماهية المصطلح، وجوانب إطلاقاته، وتعريفه على كونه صورة لغوية أو وحدة معرفية بيانية، ثمّ تعرض ماهية الوحدة المصطلحية، وأساسياتها؛ لتختم حديثها حول الدّراسة المصطلحية، كمنهج خصّص للنّظر في الجوانب الدّلالية والاستيعابية للمصطلح.
المطلب الأول: ماهية المصطلح
المصطلح لغة: مشتقّ من فعل (صلح)؛ والصّلاح ضد الفساد(1).
أما اصطلاحًا: فيمكنُ تعريفه على أنه صورة لغوية، قد تكون كلمة مفردة، أو عبارة مركبة من كلماتٍ متعدّدة، أو رمزًا، تدلُّ على مفهومٍ مجرّد أو محسوس ضمن حقل موضوعيّ محدّد، وقد يوصفُ بأنه قويّ إذا حاز على اتّفاق المتخصّصين في ذلك المجال، وبأنه ضعيفٌ إذا لم يحُز على ذلك(2)، من خلال ما سبقَ يتّضح أنّ من شروط المصطلح؛ دَلالته على مفهوم، سواء كان هذا المفهوم مجرّدًا أو محسوسًا، وأن يكون ضمن حقلٍ موضوعيّ محدّد، حتى يكتسب بذلك قوته الاستيعابية؛ لأنه باختلاف الحقل، تختلف وجهات النّظر للمصطلح، ومن ثمّ فصوغُ المصطلح في حقلٍ غير حقله ينتج عنه اختلافٌ في بنيته الدّلالية، ومن ثمّ ينعكسُ هذا الاختلاف إلى اختلاف في محامله، والمسائل التي تندرج تحت صيغته المفهومية، “فالمصطلح هو فقرات صلب العلم، وليس أدلَّ على ذلك من أننا إذا جرَّدنا أي علم من مصطلحاته فلا يبقى منه بعد ذلك شيء، وذلك أمر مطّرد في جميع العلوم لا يند عنه منها شيء. فإذا كان “من العلم ما هو صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم(3).
المطلب الثاني: الوحدة المصطلحية
المصطلح أو الوحدة المصطلحية تسمية تطلق على مفهوم في حقل موضوعيّ معيّن، أو تخصيصٍ لذلك المفهوم، وقد يكون المصطلحُ: كلمة أو رمزًا، أو تعبيرًا، أو معادلة كيميائية أو رياضية أو اسمًا علمياً، أو أحد المختصرات أو أحدَ الأوائليّات(4)، وقد يستخدم المؤلفون لفظ (المصطلح) في حال الحديث عن مصطلح بسيط، أو يستخدمون لفظ (الوحدة المصطلحية) في حال الحديث عن مصطلح مركّب يتألّف من كلمات متعدّدة، أو عن رمز أو معادلة تخصُّ مفهومًا معيّنًا ضمن حقلٍ موضوعيّ محدّد(5).
المطلب الثّالث: الدّراسة المصطلحية
الدّراسة المصطلحية؛ ضربٌ من الدّرس العلمي لمصطلحات مختلف العلوم، وفق منهج خاص، بهدف تَبَيُّنِ وبيان المفاهيم التي عبّرت أو تعبّر عنها تلك المصطلحات في كلّ علم، في الواقع والتّاريخ معًا، وتكمن أهمّيتها في أمور أهمّها: موضوعها الذي هو المصطلحات، لأنّ مفاهيم العلوم تتبلور عند ولادتها في مصطلحات، إذ لا سبيل إلى استيعاب أي علم دون فهم مصطلحاته، وهدفها الذي هو تبيّن وبيان مفاهيم المصطلحات، ثمّ منهجها الذي هو منهج الدّراسة المصطلحية للمصطلحات(6).
المبحث الثاني: مصطلح الرّخصة بين الدّرس اللّغوي والدّرس الأصولي
يعرض هذا المبحث حديثًا يخصّص النّظر، ويفرد الأثر في الجوانب الدّلالية التي سيق بها مصطلح الرّخصة عند اللّغويين، وعند الأصوليين.
أولا: مصطلح الرّخصة عند اللّغويين
رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا فَهُوَ رَخِيصٌ مِنْ بَابِ قَرُبَ وَهُوَ ضِدُّ الْغَلَاءِ؛ وَالرُّخْصُ وِزَانُ قُفْلٍ اسْمٌ مِنْهُ، وَالرُّخْصَةُ وِزَانُ غُرْفَةٍ وَتُضَمُّ الْخَاءُ لِلْإِتْبَاعِ وَمِثْلُهُ ظُلْمَةٌ وَظُلُمَةٌ وَهُدْنَةٌ وَهُدُنَةٌ وَقُرْبَةٌ وَقُرُبَةٌ، وَالْجَمْعُ رُخَصٌ وَرُخُصَاتٌ مِثْلُ: غُرَفٍ وَغُرُفَاتٍ، وَالرُّخْصَةُ التَّسْهِيلُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّيْسِير(7)، فالرّخصة تفيد مطلق التسهيل والتيسير، ويُقَالُ رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إرْخَاصًا؛ إذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ وَفُلَانٌ يَتَرَخَّصُ فِي الْأَمْرِ أَيْ لَمْ يَسْتَقْصِ وَقَضِيبٌ رَخْصٌ أَيْ طَرِيٌّ لَيِّنٌ وَرَخُصَ الْبَدَنُ بِالضَّمِّ رَخَاصَةُ وَرُخُوصَةً إذَا نَعُمَ وَلَانَ مَلْمَسُهُ فَهُوَ رَخْصٌ(8).
ثانيًا: مصطلح الرّخصة عند الأصوليين
اختلف الأصوليّون في توصيف مصطلح (الرخصة) على نمطين؛ منهم من جعلها وصْفًا للفعل، ومنهم من جعلها وصفاً للحكم، وبيانُ هذين المذهبين كالتّالي:
-
- مصطلح الرّخصة وصفٌ للفعل:
حيثُ عرّفوا مصطلح الرخصة بأنه ما شرع من الأحكام لعذر، إلى آخر الحد المذكور(9)، حيثُ بيّنوا أنّ الرّخصة تشملُ كلّ ما جاز فعله لعذر مع قيام السّبب المحرم، وأنّ الرخصة كما تكون بالفعل قد تكون بترك الفعل، كإسقاط وجوب صوم رمضان والركعتين من الرباعية في السفر(10)، وبناءً على ما تقدّم يكون مصطلح الرّخصة على حسب هذا الاتّجاه وصف لفعل المكلّف بالفعل أو التّرك.
-
- مصطلح الرّخصة وصفٌ للحكم:
عُرِّفَ مصطلح الرّخصة بأنه الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، فالحكم جنس وقول الثابت إشارة إلى أن الترخص لا بد له من دليل، وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض, فنبه عليه بقوله الثابت؛ لأنه لو لم يكن لدليل لم يكن ثابتاً بل الثابت غيره. قوله: “على خلاف الدليل” احترز به عما أباحه الله تعالى من الأكل والشرب وغيرهما، فلا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على المنع منه دليل(11).
المبحث الثالث: ابن عاشور وكتابه مقاصد الشّريعة الإسلامية
يتضمن هذا المبحث ترجمة وجيزة لابن عاشور، تكشف الذّهنية المعرفية التي تميّز بها، والتي جعلت منه شخصية تقعيدية في تقعيد الأصول، تأصيلية في ردّ الفروع إلى أصولها، مقاصدية في توسعة الجوانب الدّلالية للمصطلح الأصولي عمومًا.
المطلب الأول: ترجمة الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى.
الإمام محمَّد الطاهر ابن عاشور إمام من أئمة العلم والفقه والأصول واللّغة، ولد بتونس سنة (1879م)، وتوفي بها سنة (1973م)، شاء المولى أن تتّسع مسيرة حياته لأكثر من تسعة عقود، في فترة حافلة بالأحداث السّياسية، والمستجدّات التّاريخية، زاخرة بالأنشطة المعرفية، والحركات الثّقافية، والعلمية، مما أثر في تكوين شخصيته وصقلها، فنشأ في رحاب العلم، مزاوِلاً دور المعرفة، ومستقراً في أكناف أمّهات الكتب، ناهلاً من مناهلها، ضابطًا لمعارفها، و وجّه فكره نحو فكرة المقاصد، والعمل على تنزيلها، وتأصيلها، وتقريرها، وضبط قواعدها ومفاهيمها، أحدثت آراؤه نهضة في علوم الشّريعة، والتّفسير، والتّربية، والتعليم، والإصلاح، وكان لها أثرًا بالغًا في استمرار مدرسة “الزيتونة” في العطاء والرّيادة، كما تولّى مناصب قيادية مرْموقة في بلاده كالقضاء، والإفتاء، ومَشْيخة الجامعة الزّيتونيّة، فضلاً عن التدريس بها، فكان أوّل من درّس كتاب الموافقات، وأوّل من درّس مقاصد الشّريعة في الجامعة، وكان عضوًا مراسلاً في مجمعيْ اللغة العربية بدمشق، والقاهرة، أما مدرسة الصّادقية، فله بها إسهامات عظيمة في التفسير، وفي الأصول، وفي اللغة والأدب، وفي مقاصد الشّريعة، التي انعقدت له الإمامة فيها، وارتبط اسمها به، واسمه بها، بفضل كتابه: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، وكتابه (أصول النظام الاجتماعي)، وغير ذلك من البحوث والمقالات والمحاضرات(12).
المطلب الثاني: كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية
مقاصد الشّريعة الإسلامية؛ كتاب ذو فائدة جليلة، ويعدّ أوّل كتاب مستقل يؤلف في مقاصد الشّريعة الإسلامية، ومؤلفه أوّل من نادى بأن تكون مقاصد الشّريعة علماً يضم القواعد القطعية التي يتَّفِق عليها الجميع، ( طبع سنة 1947)؛ تتناولُ هذه الجزئية من الدّراسة المرتكزات التّالية:
أولا: غايات التأليف
قصد ابن عاشور من خلال تأليفه لكتابه مقاصد الشّريعة الإسلامية، القضاء على الخلاف وتقريبه، وذلك من خلال تجاوز ما يحدث بين المختلفين في مسائل الشّريعة من عُسر الاحتجاج؛ يقولُ ابن عاشور: “هذا كتاب قصدتُ منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها؛ لتكون نبراساً للمتفقِّهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظارِ وتبدل الأعصار”(13)، كما هدف ابن عاشور من خلال تأليفه لكتابه إلى إثبات مرجعية المقاصد في الحكم؛ وذلك عن طريق الاستدلال عليها بمنهج سديد، فابن عاشور يبرهن على المقاصد لتكون مرجعاً ونبراساً عند اختلاف الأنظار، ووجهة يحتكم إليها عند تبذل الأعصار، إضافة إلى تبصير النّاظرين في الشّريعة من مسالك فقهها؛ تفسيراً لنصوصها، وتعليلاً لأحكامها، واستدلالاً عليها(14)، هذا من وجهٍ، وهدف من وجه آخر إلى شحذ الهمم نحو إرساء منهج علميّ قائم على الإنصاف، ونبذ التّعصّب، يتدرّب وفقه الفقيه(15)، كما دعا إلى ضرورة استقلالية علم مقاصد الشّريعة عن علم أصول الفقه(16).
ثانيًا: القيمة العلمية لكتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية
يحتلّ كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية لابن عاشور قيمة علمية واسعة، جعلته واسطة بين التصانيف التّراثية، والمصنفات المعاصرة، كما فتح به باباً مهماً في طرق تلبية احتياجات المسلمين، وتحقيق المقاصد الشّرعية من التّشريع، إضافة إلى ما تميّزت به مباحثه من تأهيل في جانب فقه المعاملات المالية، وعللها، وجانب الأقضية والشّهادات، ومقاصدها, كما انفرد هذا التأليف بعرض مباحث هامة من بينها: مسألة استقلالية المقاصد، ومسألة قطعية أصول الفقه، ومسألة تقسيم المقاصد الشّرعية، إضافة إلى تميّزه بالتقعيد والتأصيل والتّدليل والتعليل.
المبحث الرابع: المصطلح الأصولي الرخصة عند ابن عاشور
تختصّ هذه الجزئية بالحديث حول مناط البحث (مصطلح الرخصة) عند ابن عاشور تخصيصًا، وتكشفُ عن جوانب مهمة تطرّق إليها ابن عاشور في عرضه لمصطلح الرخصة.
أولا: مصطلح الرخصة عند الأصوليين
الرخصة هي عبارة عن وضع الشّارع وصفًا من الأوصافِ سببًا في التّخفيف(17)، كما عرّفها الشّاطبي بقوله: “وَأَمَّا الرُّخْصَةُ؛ فَمَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ، اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ”(18).
ثانيا: منهج ابن عاشور في عرض المصطلح الأصولي (الرخصة)
-
- ابتدأ حديثه بتقرير بيان هذا المبحث لسبب إغفال الفقهاء التّعرض له.
- استعرض موقف الفقهاء في تعريف الرّخصة؛ قال ابن عاشور: ” فقد أطبقت كلمةُ الفقهاء على أن الرخصة تُغَيِّر الفعلَ من صعوبة إلى سهولة، لعُذرٍ عَرَض لفاعله، وضرورةٍ اقتضت عدمَ اعتدادِ الشريعة بما في الفعل المشروع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة مقابلَ المضرَّة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة، وَمثّلوا الرخصة بأكل المضطر الميتة”(19).
-
- ذكر تأصيل الشّاطبي للرّخصة حيثُ ذكر: “أَنَّ الرُّخْصَةَ أَصْلُهَا التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُكَلَّفِ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ؛ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ثِقَلِ التَّكْلِيفِ فِي سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، وَهَذَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ”(20).
- نظر ابن عاشور إلى الرّخصة من خلال (عموم الضّرورة وخصوصها)(21).
ثالثًا: المصطلح الأصولي (الرخصة) من خلال (عموم الضّرورة وخصوصها) (22)
-
- الضرورات العامة المطّردة:
هي تلك الضرورات التي كانت سببًا في تشريعٍ عام في أنواع من التّشريعات، مستثناة من أصول كان شأنها المنع، مثل: (السّلم، المغارسة..) فدخلت في قسم الحاجي، وكان حكمها حكم المباح باطّراد.
-
- الضّرورات العامة المؤقتة:
وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها، تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها، أو نحو ذلك، وهذا التوقيت وهذا العموم في هذا القسم مقول على كليهما بالتفاوت، ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدرُ من اعتبار الضرورة الخاصة، وأنَّها تقتضي تغييراً للأحكام الشرعية المقرِّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة، وليست أمثلةُ هذا النوع من الرخصة بكثيرة.
-
- الضّرورات الخاصّة المؤقتة:
جاء بها القرآن والسّنة، كقوله تعالى: “فَمَنُ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [ البقرة: 173]، اقتصر عليها الفقهاء في تمثيل الرخصة.
الخاتمة:
أسفرت الدراسة على بيان بعض النتائج والتوصيات التي يمكنُ عرضها على النحو التالي:
أولا: النتائج
- عالم المفاهيم يحوي شبكة من الخصائص والمواصفات التي تتحدّدُ بها الموضوعات التي تتصل بقضية ما.
- المصطلح الأصولي هو كلّ لفظٍ يدلُّ على شيء معلوم عند الأصوليين يتميّز به عن ما سواه.
- الوحدة المصطلحية تسمية تطلقُ على مفهوم في حقلٍ موضوعيّ معين.
- الدّراسة المصطلحية هي منهجٌ خاصّ بهدف تبيّن وبيان المفاهيم التي تعبّر عنها المصطلحات.
- اختلاف الأصوليين في تحديد مفهوم المصطلح راجع إلى اختلاف زوايا النّظر؛ فمنهم من نظر إليها من جهة كونها وصفًا للفعل، ومنهم من نظر إليها من جهة كونها وصفًا للحكم.
- يحتلُّ كتاب مقاصد الشّريعة الإسلامية، قيمة علمية واسعة جعلته واسطة بين التّصانيف التّراثية، والمصنّفات المعاصرة.
- انتخب ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية منهج الدراسة المصطلحية بالتدقيق في المصطلح الأصولي، وإعادة طرحه وانتخابه وفق ما يقتضيه المنهج بنظرة تطويرية جديدة في الطرح.
- المصطلح الأصولي عند ابن عاشور هو موضوع يفتح أمام الباحث أفق البحث في المصطلحية اللغوية، والمصطلح الأصولي، والتّطور الدّلالي للمصطلح، إضافة إلى الفروع الفقهية المتعلّقة بالمصطلح، ويكشف المصطلح الأصولي في كتاب مقاصد الشّريعة لابن عاشور عن القواعد المقاصدية، القواعد الأصولية، والفروق المقاصدية، والفروق الأصولية، فالمصطلح الأصولي كاشفٌ عن مجالات معرفية متنوّعة، إضافة إلى ما يميّزه من الجوانب البحثية التجديدية في أصول الفقه خاصّة.
- المصطلح الأصولي عند ابن عاشور يكشف عن تشوف ابن عاشور لأهميّة التعريفات في ضبط مفاهيم المصطلحات، ومن ثمة في إدراك حقائق العلوم، والأخذ بناصيتها، فالبحثُ في المصطلح الأصولي عند ابن عاشور مدعاة لسبر منهجه الأصولي، والتّعرض لأماليه المقاصدية.
- كان ابن عاشور مبدعًا، مجدّدًا لا يخرجُ في الإطلاق المصطلحي إلا عن اختيار يختاره لنفسه، وتحقيقات يستبدُّ بها، فقد أقام رحمه الله صرح المقاصد بالأصول، ومبنى الأصول بالمقاصد، وهذا الإبداع انعكست جوانبه في تقريراته المصطلحية، ودلالاته المقاصدية.
- الرخصة من خلال عموم الضّرورات وخصوصها عند ابن عاشور؛ يمكن تقسيمها إلى رُخَصٍ متعلقة بضرورات عامة: هي تلك الضرورات التي كانت سببًا في تشريعٍ عام في أنواع من التّشريعات، مستثناة من أصول كان شأنها المنع، مثل: (السّلم، المغارسة..)، وهذا نوع من أنواع الرخص التي رخص فيها الشارع مع أن الأصل فيها المنع.
- هناك رخص متعلقة بضرورات عامة مؤقتة إذا عرض اضطرار لأمة واستدعى إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها، أو نحو ذلك، وهذا كذلك نوع من أنواع الرُّخَصِ الشرعية لكن الأمر فيه يكون موكولاً لأهل الاجتهاد في تكييفه والنظر فيه.
ثانيا: التوصيات
- ضرورة العناية بالدّراسة المصطلحية، وتفعيلها في الجانب الأصولي للمساهمة في تجديد المعارف المصطلحية في الدّراسة الأصولية، وضبطها أكثر، والعمل على تفعيل المدرسة المقاصدية وتأصيل منهجها.
- ضرورة العمل على تطوير دراسة المصطلح الأصولي والتّجديد في الجانب الأصولي، والمقاصدي؛ وتخصيص فرقة بحث من فرق المخابر العلمية لدراسة المصطلح الأصولي، وتكوين اللبنة الأولى في الدّراسة المصطلحية الجامعة بين التخصّص اللغوي، والفقهي، والمقاصدي، وتخصص علم الاجتماع، حتى تكون دراسة قيمة استشرافية حاملة للجمع، رافعة لواء الاجتهاد والتّحدي.
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور (ت1393هــ)، مقاصد الشّريعة الإسلامية، (تح: محمد الحبيب ابن الخوجة، وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلامية)، (د.ط، قطر، 1425هــ- 2004).
- الإسنوي؛ عبد الرّحيم، بن الحسن (ت772هـــ)، نهاية السّول في شرح منهاج الأصول، (ط1؛ بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، 1420هــ- 1999).
- الآمدي؛ أبو الحسن سيد الدّين علي، بن أبي علي بن محمد الثّعلبي (ت631هــ)، الإحكام في أصول الأحكام، (تح: عبد الرّزاق عفيفي)، (د.ط، بيروت، دمشق، لبنان، المكتب الإسلامي).
- إياد خالد الطباع، محمد الطاهر ابن عاشور علاّمة الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، (ط1؛ دار القلم، دمشق، 2005).
- بلقاسم غالي، من أعلام الزيتونة: شيخ الجامع الأعظم؛ محمد الطاهر ابن عاشور، (د.ط، دار ابن حزم، بيروت، 1996).
- الشاهد البوشيخي، مصطلحات النّقد العربي لدى الشّعراء الجاهليين والإسلاميين، قضايا ونماذج، (ط1؛ بيروت، دار الغرب، د.ت).
- الشاهد البوشيخي، نظرات في المصطلح والمنهج، (ط3؛ المغرب، 2004).
- الفيومي؛ أبو العباس أحمد، بن محمد بن علي الحموي (ت770هــ)، المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير، (تح: عبد العظيم الشّناوي)، (ط2، دار المعارف، القاهرة، د. ت).
- قاسم طه السّارة، مبادئ علم المصطلحات، (ط1؛ مصر، دار السلام، 1438هــ- 2017).
- محمد، ابن مكرم، ابن منظور، لسان العرب، (د.ط؛ بيروت، دار الجيل، 1988).
1) ينظر؛ محمد، ابن مكرم، ابن منظور، لسان العرب، ص462.
2) ينظر؛ قاسم طه السّارة، مبادئ علم المصطلحات، ص16.
3) ينظر؛ البوشيخي؛ الشاهد، مصطلحات النّقد العربي، ص7.
4) هي أوائل الحروف التي تبتدئ بها الكلمات مثلا: (صندوق النقد= ص ن)
5)ينظر؛ مبادئ علم المصطلحات، (مرجع سابق)، ص17.
6) يرجع؛ البوشيخي؛ الشاهد، نظرات في المصطلح والمنهج، ص15 وما بعدها.
7) ينظر؛ الفيومي؛ أبو العباس أحمد، المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير، ج1، ص223.
8) ينظر؛ (المرجع نفسه)، ج1، ص223- 224.
9) ينظر؛ الآمدي؛ أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص138.
10) ينظر؛ (المرجع نفسه)، ج1، ص138
11) ينظر؛ الإسنوي؛ عبد الرّحيم، نهاية السّول في شرح منهاج الأصول، ج1، ص33.
12) ينظر؛ إياد خالد الطباع، محمد الطاهر ابن عاشور، ص30- 39، ينظر؛ بلقاسم غالي، من أعلام الزيتونة: شيخ الجامع الأعظم؛ محمد الطاهر ابن عاشور، ص17- 18.
13) ينظر؛ ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشّريعة الإسلامية، ج3، ص5.
14) ينظر؛ المرجع نفسه، ج3، ص6.
15) ينظر؛ المرجع نفسه، ج3، ص6.
16) ينظر؛ المرجع نفسه، ج3، ص22.
17) ينظر؛ أصول الفقه الإسلامي، (مرجع سابق)، ج1، ص108.
18) ينظر؛ الموافقات، (مرجع سابق)، ج1، ص466
19) ينظر؛ مقاصد الشّريعة الإسلامية، (مرجع سابق)، ج3، ص357.
20) ينظر؛ الموافقات، (مرجع سابق)، ج1، ص477.
21) ينظر؛ مقاصد الشّريعة الإسلامية، (مرجع سابق)، ج3، ص357.
22) ينظر؛ المرجع نفسه، ج3، ص357.